Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

من إنسان طائر إلى طائرة بلا إنسان ....الأدب العلمي العدد الثالث عشر


د. خير الدين عبد الرحمن
باحث من سوريا

كرّست الثقافة الغربية السائدة فكرة أن الأخوين ويلبور رايت و أورفيل رايت الذين كانا يملكان متجراً للدراجات في بلدة دايتون بولاية أوهايو الأمريكية، كانا أول من أسس لاختراع الطائرة وتدشين عصر الطيران عندما حلقا في الهواء لتسع وخمسين ثانية بطائرة شراعية ذات هيكل خشبي مغطى بقماش قوي النسيج –كما قالا- يوم 17/12/1903  قرب قرية كيتي هاوك عند منحدرات ولاية كارولينا الشمالية الأمريكية الخارجية، بعد إعداد تجارب وعدة محاولات سابقة منذ العام 1900 . كانت تلك أول طائرة متحكم بها طارت بمحرك احتراق داخلي .
وقد اهتم الأخوان رايت بمسائل الإقلاع والتحكم والتوازن والتوجيه وحركة الرياح، كما قال جيمس توبين في كتابه ( قهر الهواء: الأخوان رايت والسباق الكبير من أجل الطيران To Conquer the Air : Wright Brothers Great Race for Flight )  الصادر في نيسان 2004 ، وظلا يراقبان حركة إقلاع وطيران وهبوط طيور النورس والصقور والنسور باهتمام وتمعن شديدين لفترات طويلة ، من أجل استخلاص قوانين يطبقانها في مغامرتهما . وقد تطورت محاولات الأخوين من طيران لثانيتين ثم لاثنتي عشرة ثانية ولارتفاع تراوح بين مترين وسبعة أمتار ولمسافة نصف ميل ، إلى نجاح أورفيل رايت في تشرين الأول 1908 في الطيران لمسافة خمسين ميلاً . بعدما بدأت شركة فوزان فرير الفرنسية في بيلانكور سنة 1906 تصنيع طائرات لبيعها للجمهور، وبالفعل بيعت أول طائرة ثنائية السطح كانت   أشبه بالطيارة الورقية ، وذات شكل أشبه بالصندوق ، يوم 30 / 3/ 1907 .
قال عدد من الخبراء والإعلاميين أن الريادة هي للبرازيلي ألبرتو سانتوس دومونت الذي استطاع سنة 1898 توجيه طائرة - أو سفينة هوائية تعمل بالغاز ، كما قيل آنذاك – فوق العاصمة الفرنسية باريس . لكن هناك من أصرّ على أن رائد الطيران هو ويلمبور الذي حلّق فوق حي مانهاتن النيويوركي بطائرة تعمل بقوة محرك سنة 1909 . بينما انحاز علماء وخبراء وإعلاميون إلى القول بريادة ساميول بييربونت لانغلي ، عالم الفيزياء الفلكية في معهد سيمشسونيان الأمريكي، مبتكر أول طائرة أثقل من الهواء على متنها طيار أسماها Aerodromes ، وقد صممها بمعونة فريق من الخبراء سنة 1899 ، بتمويل ضخم من وزارة الدفاع الأمريكية . ركز لانغلي ومساعده المهندس تشارلز مانلي على صنع محرك قوي خفيف الوزن ، ولم يهتمّ كثيراً بالمسائل الأخرى المتعلقة بديناميكية الهواء والتوازن وسوى ذلك. لكن ألكسندر غراهام ، مخترع جهاز الهاتف ، قال إنه هو رائد عصر الطيران باختراعه طائرة ورقية رباعية الخلايا القاعدية !
يرى الفرنسيون أن مواطنهم فيليك سدي تمبل هو أول من صمم طائرة ، فقد كانت له بالفعل طائرة أحادية السطح سيّرها البخار نجحت في الطيران سنة 1874 ، ولكنها ارتفعت لثانية أو ثانيتين فقط . وكانت لفرنسي آخر هو كليمن أوليه محاولة أكثر نجاحاً في العام 1890 ، حيث استطاعت طائرته التحليق لمسافة خمسين متراً ، وامتازت عن سابقاتها بأنها لم تستخدم منحدراً تنطلق منه لترتفع في الهواء.
وبعد أربع سنوات ، أي سنة 1894 تمكن السير جيرام مكسيم ، الأمريكي الذي انتقل إلى بريطانيا وصار بريطانياً ، من تصميم طائرة ثنائية السطح ذات محرك بخاري كبير ونجح في جعلها تقلع عن الأرض. كان جيرام مكسيم هذا قد استجاب لنصيحة أمريكي آخر قال له سنة 1881 أنه إذا أراد جمع ثروة طائلة كما كرر مراراً فعليه أن ينتقل إلى بلد أوربي ويخترع شيئاً ما يتيح للأوربيين قتل بعضهم بعضاً بسهولة أكبر، فيتهافتون جميعاً لشراء اختراعه ذاك .
وبالفعل اخترع بندقية آلية متطورة قادرة على قذف غلاف الرصاصة جانباً لدى إطلاقها، وكذلك على دفع رصاصة أخرى من شريط معدني تصطف الطلقات عليه إلى حجرة الإطلاق فور انطلاق الطلقة السابقة . وقد استخدمت بندقيته هذه للمرة الأولى في الحرب بين روسيا واليابان ، ثم استخدمتها الأطراف المتحاربة في الحرب العالمية الأولى فحقق الرجل حلمه بثروة كبيرة .
كذلك استطاع الروسي ألكسندر موزهايسكي تصميم وصنع طائرة مماثلة في العام 1884 ، أي قبل مكسيم بعشر سنوات، وقد استخدم لها محركاً بخارياً بريطانياً . تجاهل هؤلاء المخترعون وكذلك من أرّخوا محاولاتهم أن عربياً اسمه عبّاس بن فرناس قد سبقهم بقرون عديدة عندما ثبّت جناحين على جنبيه بعد دراسة دقيقة لآلية طيران الطيور وحركاتها في الإقلاع والتحليق والطيران والهبوط، وإن كان قد ارتكب غلطة كلّفته الكثير، إذ استخدم الشمع في تثبيت الجناحين على جسمه ، ولم يفطن إلى أن حرارة الشمس الحارقة في الساعة التي حاول الطيران فيها كانت كفيلة بإذابة الشمع الذي استخدمه ، فكان تفكك الجناحين وسقوطه على الأرض. كذلك تجاهل ألكسندر غراهام وهو يصرّ على أن طائرته الورقية التي ابتكرها تؤهله لادّعاء ريادة الطيران أن الصينيين قد ابتكروا قبله بعدة قرون نماذج متنوعة مختلفة الأحجام والتصاميم والمقاييس لطائرات ورقية تفوق بعضها على طائرته .
مع ذلك ، وبعيداً عن ذاك الذي يستحق أن تنسب ريادة اختراع الطائرة واقتحام عصر الطيران إليه ، نستطيع القول بأن الطبيعة هي المعلم الأول في هذا السياق وفي كل سياق آخر . فالتمعن في الطبيعة وتأمل عناصرها وظواهرها أساس ومنطلق الجهود التي قادت إلى اختراع الطائرة ومن ثم تطوير الطائرات من شراعية إلى ذات محركات إلى نفاثة ومن ثم طائرات بلا طيارين تعدت قدراتها مهام الاستطلاع والتصوير إلى مهام القتال والقصف والاشتباك واغتيال الأفراد. لقد كانت مراقبة أنواع الطيور المختلفة في إقلاعها وتحليقها ومناورات طيرانها في الأحوال الجوية المتباينة ومن ثم هبوطها ، ودراسة حركاتها وتناسق أداء الجناحين والذيل والرأس في كل منها ، ملهماً رئيساً لتصميم وتطوير وتحسين الطائرات ، سعياً إلى توفير مزيد من الأمان والسرعة وسهولة الحركة والتعامل مع التيارات الهوائية ، مقاومة لها أو التفافاً عليها أو استثماراً لطاقتها في تسهيل وإحكام أداء الطائرة لدى الإقلاع والهبوط وما بينهما من تحليق وطيران ومناورة وانقضاض .
انتبه الفيلسوف الفرنسي أومرام ميخائيل أوفانهوف إلى دور الطبيعة باعتبارها المعلم الأكبر . فقد انتبه مثلاً إلى رد الفعل التلقائي للمحارة إزاء الاعتداء عليها وإيذائها ، فدعا البشر إلى محاكاة آلية عمل المحارة للتغلب على مصاعبهم وتحويلها إلى دافع نحو عمل إيجابي وإنتاج وإبداع وتقدم. تمعن الرجل في نشوء اللؤلؤ داخل المحارات وطابق خياله ما بين آلية هذا النشوء والتعامل البشري مع التحديات واعتداءات . وهكذا كتب أومرام ميخائيل أوفانهوف قائلاً : « كيف تتصرف المحارة عندما تنتج لؤلؤة ؟ البداية هي ذرة رمل تقتحم قوقعة المحارة أو تسقط فيها صدفة فتسبب لها أذى وألماً عندما تحتك بغشائها . تفشل المحارة في طرد ذرة الرمل للتخلص من ألمها ، فيدفعها استمرار الألم الناجم عن احتكاك ذرة الرمل بغشائها إلى عمل دفاعي يتمثل بإفراز مادة لطيفة مضيئة قزحية ملساء حولها ، فتعزل هذه المادة حبة الرمل عن نسيج المحارة الطري الحساس .
وكلما كان ألم المحارة أشد تفرز المحارة كمية أكبر من تلك المادة التي سرعان ما تتصلب حول ذرة الرمل ، وبهذا تتشكل حبة اللؤلؤ في الوقت الذي تحمي المحارة فيه نفسها وتتخلص من الألم.
بهذا استطاع الفيلسوف الفرنسي أومرام إيفانهوف استنباط درس هام في السلوك الإنساني الفردي والجمعي إزاء الطوارئ والاعتداءات والتحديات ، ذلك الدرس هو حسن استخدام القدرات والإمكانيات المتاحة الملائمة لشل فاعلية التحدي والاعتداء والطارئ المسبب للألم والأذى عبر تطويقها أو تغليفها لصد أذاها .
قبل هذا وذاك من الفلاسفة والمفكرين الذين دعوا إلى استخلاص الدروس من الطبيعة وسلوك ما حولنا من كائنات ، كان الدرس الأول الذي تعلمه الإنسان من الطبيعة هو كما أخبرنا القرآن الكريم بقوله: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك ، قال إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ، إني أخاف الله رب العالمين . إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين . فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين . فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه ، قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين » (المائدة : 27 - 31 ).
بعد عشرات العقود من اختراع الطائرات وتطوير أجيال أكثر تقدماً منها ، مدنية الاستعمالات كانت أم حربية ، مأهولة أو غير مأهولة ، لا يزال مهندسو الطائرات ومصمموها وخبراؤها يدرسون المزيد عن آلية طيران الطيور وخصائص كل جزء من أجزاء جسم هذا الطير أو ذاك ودوره في الإقلاع والتحليق والمناورة والهبوط ، لاكتشاف ما يسد ثغرة هنا ويصحح خللاً هناك ويقود إلى تحسين أكبر في أداء الطائرات .
لكل إنسان فرص لتطوير ما من خلال ملاحظة ما حوله والتفكر والتدبر وإعمال الخيال والفكر .. كل في مجاله ، وأحياناً في غير ما يظنه مجاله !

مجلة الأدب العلمي العدد الثالث عشروجهة نظر



0 comments: