Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

فدريكو غارسيا لوركا في الثقافات العربية والعالمية ...دوائر الإبداع العدد الخامس


د. راتب سكر

تمر في عامنا الجاري 2016 الذكرى الثمانون لمصرع فدريكو غارثيا لوركا (1898-1936)، أحد أبرز أدباء العالم شهرة في القرن العشرين ، في موطنه إسبانيا وخارجها . تعود شهرته إلى ما كتبه من أدب رفيع، احتفل بقضايا عصره في تطلعه إلى الحرية والعدالة ومقارعة الظلم والاستبداد ، تلك التطلعات التي شغل بها كثير من أعلام الثقافات العالمية بتياراتها المتنوعة طوال القرن العشرين ، ملونة طوابعها بمعان نضالية عميقة .
لم يحقق أدب لوركا مكانته المرموقة، بسبب احتفاله بقضايا عصره فقط، فإلهامه الأدبي المتميز، وأصالته الفنية، ساعداه على إنجاز أدب يحظى بتقدير واسع، تمّ التعبير عنه في المؤلفات التي عنيت بالترجَمة له ودراسة أدبه، فرأت أن قصائده تكشف «قدرة الإلهام الذي استوحاه من الأندلس والتراث الشعبي »(1).
جاء مصرعه المأساوي عام ( 1936) في الظروف المضطربة للحرب الأهلية الإسبانية ( 1936 - 1939) ليضيف إلى مكانته الأدبية، بعداً سياسياً نضالياً مرتبطاً بقيم الكفاح السياسي في سبيل كرامة الإنسان وحقه في الحرية والعيش الحر الكريم، تلك القيم الي أثرت في آداب النصف الأول من القرن العشرين تأثراً واسعا وعميقاً. وقد فطن الدارسون إلى أثر حادثة مصرعه في تزايد شهرته الأدبية، فكتبوا عن تزايد شهرته «الشعرية باضطراد بعد موته » (2). يهمل الدارسون أحياناً المكانة التي حققها أدب لوركا في حياته، فيعيدون الفضل في شهرته لأثر حادثة مصرعه، مبالغين في تقديرهم ذلك الأثر، بمثل قول ج. ل. جيلي:
«لعل الفضل في شهرته المبكرة، يعود، بشكل ما لظروف مصرعه الفاجع المروع في الحرب الأهلية الإسبانية  » (3)، وأكد كثير من الكتاب العرب قيمة حادث مصرعه في الوجدان، من دون إهمال الإشارة إلى قيمة أدبه، فلخصت بهيجة مصري إدلي هذه الرؤية بقولها: «اغتالته الحرب في وقت مبكر، إلا أن القصيدة خلدته، وخلده الناس، فكان أحد الشعراء العالميين الذين كانت لهم بصمة على صفحات التاريخ والزمن »(4).وقد وجه عدد من الأدباء العرب محور الاهتمام إلى قيمة لوركا الأدبية، فكتبوا مقدرين أدبه مرتفعين به إلى مراتب عالية بمثل قول الشاعر نزيه أبو عفش عنه: «لوركا إذ يمجد الحياة ، يغني لها متجاوزاً ما هو مألوف وعادي، كأنه يصنع معجزة من ورق وحبر وأنين حب، ولهذا فإنه يظلّ هدفاً دائماً لرصاص الطغاة » (5). ترجحت مواقف الأدباء والدارسين، لدى الكتابة عن لوركا بن قطبي تقدير أدبه وتمجيد دوره الكفاحي المتوج بمصرعه، ويمكن القول إن هذا البعد المشار إليه، قد أخذ طابعاً أسطورياً أحياناً، فتلونت مواقف النقاد والدارسين من مكانة لوركا الكفاحية بمبالغة كبيرة، نجد مثالاً لها بقول الأديب الفرنسي لويس بارو: « إن ذكرى الشاعر القتيل ، وحدها تعادل، اليوم، جيشاً بقوتها » (6)، وقد عبّر الشاعر صلاح عبد الصبور عن هذا الطابع صراحة في قصيدته « لوركا » (7) فقال: «في ليلة صيف راكدة الريحْ صار الشاعر أسطورهْ قتلته الخفراء ا لحقر ا ءْ » تنوعت مواهب لوركا الأدبية والفنية، «فهو شاعر وكاتب مسرحي أظهر تعددية بإنتاجه القصائد ، والتأليف الموسيقي، والرسم »(8)، وقد أدرج الباحثون اسمه في عداد الأدباء العالمين، مؤكدين أهميته الأدبية وأصالته بمثل قول أصحاب «دليل القارئ إلى الأدب العالمي « :» إنه يحقق العالمية، ليس بالأممية السطحية التي تهمل الأصول المحلية، بل بالغوص إلى الأعماق الكامنة في الحياة الإنسانية، ليكتشف أسسها »(9) كان مصرع لوركا في بداية الحرب الإسبانية عام 1936 ، عاملاً من العوامل التي عمقت مكانته العالمية، لأن تلك الحرب الشهيرة، التي دارت بين التيارين الملكي والجمهوري، حظيت باهتمام واسع في مختلف البلدان، ووجد التيار الجمهوري - الذي كان لوركا واحداً من مناصريه - تعاطفاً، شعبياً وثقافياً، عالمياً فريداً، وكان الأدباء والمثقفون في العالم غير بعيدين عن الاهتمام بإسبانيا ومثقفيها، وتنفيذاً لقرار سابق اتخذته جمعية الكتاب العالمية قبل سنتين في مؤتمرها الأول المعقود في باريس للدفاع عن الثقافة، خرج من باريس في 2/ 7/ 1937 ، خمسون كاتباً إلى إسبانيا، من بينهم بابلو نيرودا وأوكتافيوباث ونيكولاس غين ..(10)ويذكر الأديب باييخو الذي كان واحداً من أولئك، أسماء عدد من الكتاب الأجانب الذين حضروا مؤازرين الجمهورية الإسبانية، «فعقدوا جلسة يوم 4/ 7/ 1937 ، افتتحها رئيس الجمهورية الدكتور خوان نيغرين لوبيث وشارك فيها مئتا كاتب، من بينهم هينريش مان ولاند سبيرج وأنديرسون نيكسو وأليكسي تولستوي وإرنست همنغوي وبيثيني ويدوبرو وأنطونيو متشادو ورفائيل ألبيرتي وخوسي برغامن وليون فيليي وميغل إرناندث » (11). إن هذا التعاطف الثقافي العالمي الحميم والواسع مع الجمهورية الإسبانية وحربها التي اغتيل الشاعر لوركا في شعابها، يقدم جسراً مهماً من الجسور التي تواصل عليها الأدباء مع صورته أديباً وصريعاً في سبيل الحرية وقيم التقدم والحق والخير، وإذا تذكرنا أن عدداً كبراً من أولئك الأدباء العالميين قد ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية، تبين لنا وسيط أدبي إلى صورة لوركا ووطنه إسبانيا في الآداب المترجمة إلى اللغة العربية، ومن ذلك على سبيل المثال: قصائد صديقه الحميم الشاعر التشيلي بابلو نرودا ومقالاته، ولاسيما قصيدته «أغنية إلى فيدريكو غارسيا لوركا » (12)، ومقالته المنشورة في باريس عام 1937 ذكرى فيديريكو غارسيا لوركا(13)، ناهيك عن الاهتمام العربي المباشر بالحرب الإسبانية وما يتصل بإسبانيا من موضوعات وقضايا، إذ ظلت في أدبهم الحديث تثير قضية علاقتهم التاريخية بالأندلس، وما يعتمل بها من مكونات معرفية ووجدانية ثرية. يشكل انتماء لوركا إلى غرناطة في إسبانيا، ومصرعه في ظاهرها، عاملاً من العوامل الوجدانية التي عززت سبل الأدب العربي الحديث إلى استلهام صورته والتفاعل مع أدبه. فلطالما تغنى الشعر العربي الحديث والمعاصر بالوشائج التاريخية والوجدانية التي تربط العرب بإسبانيا، ولا سيما مدينة غرناطة الأثيرة لديهم. ولعل تلك  الوشائج تفسر اندغام صورة لوركا في القصائد التي استلهمتها، بصورة إسبانيا، كما يفسر الاهتمام الواسع للشعراء العرب بالموضوع الإسباني، وما يمور به من أصداء التاريخ العربي في الأندلس. هذا الاهتمام الذي أثر تأثراً عميقاً في قصائد غير قليل من الشعراء، منذ نهضة الشعر العربي في العصر الحديث مع محمود سامي البارودي ( 1840 – 1904 ) حتى أيامنا (مطالع القرن الحادي والعشرين). ومن الأمثلة التي توضح هذا الاهتمام الشعري بإسبانيا، قصيدة عمر أبي
ريشة ( 1908 - 1990 ) «في طائرة » (14)، التي تتضمن حواره مع حسناء «إسبانيولية » تفخر بالجدود العرب في الأندلس، قائلة:
«وأجابت أنا من أندلس..
                جنة الدنيا سهولا وجبالا
وجدودي، ألمح الدهر على
                  ذكرهم يطوي جناحيه جلالا
بوركت صحراؤهم كم زخرت
                          بالمروءات رياحا ورمالا
حَمَلوا الشرق سناء وسنى
                   وتخطوا ملعب الغرب نضالا »
ولعل إسهام نزار قباني ( 1923 - 1998 ) في هذا المجال يعد مثالاً مفيداً، إذ كتب أربع قصائد، يبوح عنوان كل منها بموضوعها، وهي: «مذكرات أندلسية، أوراق إسبانية، أحزان في الأندلس، غرناطة » (15). ويبدو الشعور بالقرابة ذات الجذور التاريخية ، مهيمناً يضفي على الموضوع الإسباني في الشعر العربي الحديث طوابع وجدانية عميقة، حتى يصل مع نزار قباني إلى مراتب التوحد الصوفي بين الشاعر ومدينتي غرناطة ودمشق، فيقول ( 16 ):
«شوارع غرناطة في الظهيرة
حقول من اللؤلؤ الأسود ..
فمن مقعدي
أرى وطني في العيون الكبيرة
أرى مئذنات دمشق ..
مصورة فوق كل ضفيرة »
جاء استلهام صورة لوركا في الأدب العربي الحديث، متناغماً مع الاهتمام الثقافي العربي بإسبانيا، مما جعل القصائد العربية التي استلهمت صورته، تثريها بمكونات أندلسية وإسبانية متنوعة غالباً، ملبية التفاعل الثقافي العربي الأصيل الخصب، مع الموضوعات الأندلسية والإسبانية، ذات الحضور الثري في الوجدان العربي، من جهة، ومع الظواهر الثقافية العالمية المعاصرة التي رفدتها صورة «لوركا » بواحد من أبرز موضوعاتها في القرن العشرين ، من جهة أخرى ، لذلك كانت صورة «لوركا » حاضرة في الأدب العربي والثقافة العربية حضوراً واسعاً منذ استشهاده أواسط الثلاثينيات في الحرب الأهلية الإسبانية الشهيرة، وقد أشار الدارسون إلى هذه المكانة المتميزة لاسمه خارج بلاده، بمثل قول ج. ل. جيلي : «لم يبلغ أي من شعراء إسبانيا المعاصرين ما بلغه لوركا من شهرة عالمية » (17). استفاد الشاعر العربي من تلقيه الإبداعي لسيرة الشاعر الإسباني «لوركا »، ولاسيما قصة مصرعه في بناء قصيدته، منسجماً مع ظاهرة فنية ذات تأثر واسع في الأدب الحديث، وسمتها الدراسات المقارنة ب «نظرية التلقي الإبداعي » (18)، شرح الباحث د. عبده عبود ما يتصل بها من توظيف الشخصيات الأدبية في النص بمثل قوله: «وفقاً لتلك النظرية، فإن الأديب الذي يعيد صياغة شخصية أدبية معروفة، يقوم في البداية بتلقي أعمال أدبية وردت فيها تلك الشخصية، فتولد في نفسه رغبة في إعادة تشكيلها وفقاً لأفقه » (19). وما استلهام شخصية لوركا وسيرته في أعمال عدد من الشعراء العرب إلا تكامل مع استلهامهم الشخصيات الأدبية المتنوعة في تلك الأعمال، وهو تكامل تختص به دراسة تحليلية مناسبة.

الهوامش والمصادر والمراجع :
- مجموعة من الأساتذة، بلا تا - تاريخ الأدب الغربي. ج 1 و ج 2، دار طلاس، دمشق، ( 1014 ص) ص 855 .
- المرجع نفسه، ص 855 .
- لوركا ، فيديريكو غارسيا ، 1983 - لوركا مختارات من شعره. ترجَمة عدنان بغجاتي، ط 2 ، دار المسرة، بيروت، ( 201 ص).ص 9.
- مصري إدلي، بهيجة، 1999 - لوركا . مجلة البيان ، رابطة الأدباء في الكويت ، العدد 343 ، فبراير ،( من ص 11 إلى ص 71 ) ص 21
- لوركا ، فيديريكو غارسيا ، 1999 - مختارات شعرية . ترجمة مروان حداد ، وزارة الثقافة دمشق،
( 142 ص ) ، رأي للشاعر نزيه أبو عفش ، الغلاف الأخير .
- سعد ، د. علي ، 1954 - لوركا شاعر إسبانيا الشهيد ، عرس الدم . دار المعجم العربي ، بروت،
( 213 ص)ص 8 .
- عبد الصبور، صاح ، 1972 - ديوان صلاح عبد الصبور. دار العورة ، بروت ، ( 878 ص ). ص
. 228
- هيرلاندز ، ليليان ، وزمياه ، 1986 - دليل القارئ إلى الأدب العالمي ، ترجمة محمد الجورا ،
دار الحقائق ، بروت ، ( 635 ص ). ص 215 .
- المرجع نفسه ، ص 215 .
- باييخو ، ثيسار ، 1980 - رحماك يا إسبانيا . ترجَمة محمد عبد الله الجعيدي ، وزارة الثقافة، دمشق ، ( 150 ص ). ص 60 .
- المرجع نفسه، ص 60 .
- مارسيناك ، جان ، 1979 -نرودا عاشق الأرض والحرية ، دراسة ومنتخبات شعرية . ترجَمة
أحْمد سويد، دار ابن خلدون ، بروت ، ) 210 ص (. ص 164 .
- المرجع نفسه ، ص 204 .
- أبو ريشة، عمر، 1981 - ديوان عمر أبو ريشة. المجلد الأول، ط 4، دار العودة، بيروت، ) 627 ص(.
ص 89 .
- قباني ، نزار ، الأعمال الشعرية الكاملة . ج 3 ، ط 2 ، منشورات نزار قباني ، ) 656 ص (. )من
ص 527 - 575 (
- المرجع نفسه ، ص 550 .
- لوركا، فيديريكو غارسيا ، 1983 - لوركا مختارات من شعره . ترجمة عدنان بغجاتي ، ط 2 ،
ص 9 .
- عبود ، د. عبده ، 1991 - الأدب المقارن ، مدخل نظري ودراسات نطبيقية . جامعة البعث ، حمص ، ( 489 ص). ص 223 .
- المرجع نفسه، ص 233 .

مجلة دوائر الإبداع العدد الخامس  أعلام ومفكرون

0 comments: