Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

تلازم الوظيفة والدور في الهندسة المعمارية ....الأدب العلمي العدد الرابع عشر


د.م. علاء عبد الرحمن

إن النقاش والبحث في موضوع العمارة والغرض منها لم ينقطع يوماً . ظهرت العمارة في الأصل كحاجة وضرورة فقد احتاج الإنسان أن يتخذ لنفسه ملجأ يقيه الظروف المناخية ويحميه من الأخطار كذلك احتاج في ممارسة طقوسه الدينية إلى مكان يتناسب مع قدسيتها ويظهر ذلك جلياً في عمارة الحضارات القديمة التي تعكس بشكل مباشر العلاقة بين الناس ودياناتهم .
احتاج الناس قديماً أيضاً إلى مكان يتجمعون فيه ليتناقشوا ويتبادلوا الآراء ويتجادلوا في الأدب والسياسة و الإجتماع وكان من الضروري وجود أماكن أخرى للترفيه والرياضة فبنوا المجالس والمدرجات والملاعب. تطورت العمارة على مر الزمن وظهرت مباني وفراغات وظيفيّة مثيرة للإعجاب. لكن السؤال المهم يتعلّق بما يفعله المرء عندما يقوم بالعمل المعماري؟ هذا سؤال قد يبدو سهلاً للوهلة الأولى لكنّ العديد من المحاولات للإجابة عنه ساهمت في تعميق الالتباس حول موضوع العمارة والغاية منها.
بعض هذه المحاولات ربطت بين العمارة و الفن مثلما فعل سيمون أونوين  (2009  Unwin)
هل هي فن نحتي لإنتاج تكوين ثلاثي الأبعاد للأشكال في الفراغ؟
هل هي تطبيق للاعتبارات والمعايير الجمالية على المباني -أي فن جعل المباني جميلة؟ هل هي زخرفة للمباني؟ هل هي تقديم معنى شعري للمباني؟ هل هي ترتيب للمباني وفقاً لبعض النظم
الفكرية مثل الكلاسيكية (classicism) أو الوظيفية ( functionalism ) أو ما بعد الحداثة (post-modernism
يمكن الإجابة ب «نعم » على كل هذه الأسئلة، ولكن أياً منها لا يبدو أنه يشكل تفسيراً كافياً لمعنى العمارة.
في سرد تاريخي قام به هيرن ( 2003،Hearn  ) لآراء المفكرين و المعماريين عن دور العمارة و المعماريين يتبين كيف تطور مفهوم العمارة ودورها منذ الأزل وحتى وقتنا الحاضر. في هذا السياق يعتبر المنظّر الروماني فيتروفيوس ( Vitruvius ) الذي كان أول من بدأ بالكتابة عن نظريات العمارة أن الهندسة المعمارية مولّدة للحضارة مؤكداً أن جميع الفنون ومجالات المعرفة الأخرى تنحدر منها وقد عدّ بيتروفيوس كتابة النظريات المعمارية في مستوى فوق مستوى الكتابة عن التقنيات الهندسية والفيزيائية وترقى إلى مكانة الخطاب الفكري للفلسفة ويمكن أن يفهم ضمناً من ذلك أن المهندس المعماري هو أحد المساهمين الرئيسيين في تشكيل الحضارة.
جاء بعد ذلك المهندس المعماري وعالم الرياضيات والشاعر الإيطالي ألبيرتي( Alberti) في القرن الخامس عشر ليبين الفوائد التي تعود على المجتمع من وجود المباني الجميلة والمدروسة جيداً.
درس ألبيرتي العمارة الإغريقية والرومانية وأعجب بهندسة وجمال الصروح والمباني العامة وأقواس النصر ورأى أنها تعطي شعوراً بالسعادة و تعزز الإحساس بالفخر والاعتزاز وتضفي الكرامة و العنفوان في المجتمع. بيّن ألبيرتي أنه إذا كانت العمارة دينيّة فإنها يمكن أن تشجع التقوى وحتى أنها قد تجعل العدو يتردد عن مهاجمتها و تعرضها للتخريب على يد المهاجمين. وعلى نفس المنوال يمنح المهندس المعماري من خلال عمله فوائد للأفراد و العامة فمن خلال تصميم الآليات العسكرية والتحصينات و بذلك يمكن للمهندس المعماري أن يكون ذا نفع أكثر من العسكريين في الدفاع عن المجتمع و كفنان و منظّر يعتبر المعماري مفخرة لثقافته.
من ناحيته رأى المهندس المعماري وعالم الآثار الفرنسي كاتريميه دو كانسي Quatremère de Quincy))في القرن الثامن عشر أنّ العمارة هي أسلوب تعبير مثل اللغة وهي تشبهها في طبيعتها فهي برأيه ليست وسيلة يتشكل من خلالها المجتمع البشري فقط بل هي سبب هذا التشكل أيضاً وهي تتطور باستمرار لتواكب التطور الحاصل في العلاقات بين الناس خصوصاً من الناحية الاجتماعية و على هذا الأساس تشكّل الهندسة المعمارية و المهندسون المعماريون الأداة اللازمة للتحسين و التطور الاجتماعي.
كذلك أكد جون راسكن (John Ruskin) المفكر والناقد والفنان البريطاني في القرن التاسع عشر على أن العمارة الجيّدة هي التي تعزز قيم الصراحة والتضحية والجمال والحياة وهي بذلك تدعو إلى مثل عليا للمجتمع وعلى هذا الأساس فإن الهندسة المعمارية تلهم المواطنين لأنها تعبر وتعزز القيم العليا للناس وتوهب البيئة المحيطة بهم معنى ثقافياً مما يجعل للمباني والطبيعة معاني شاعريّة. إضافة إلى ذلك تعمل العمارة على إظهار الروح الكامنة داخل الناس أثناء أداء أعمالهم و ممارسة حياتهم لتكون شاهدة على هويتهم المتميّزة ولذلك يدرك المهندس المعماري مسؤولية كل هذه المهمات الملقاة على عاتقه وهو عندما ينجح فإنه يساهم بتطوير مجتمعه. أمّا المهندس المعماري والمنظّر الفرنسي فيوليت لو دوك ( Viollet-le
Duc ) فقد فضّل ممارسة العمارة دون الاستعانة بالماورائيات وهو يرى أن المهندس المعماري يقدّم التصاميم المنطقيّة التي تلبي الاحتياجات العملية للناس فالعمارة بالنسبة له هي نتاج تحليل منطقي وهي تقوم بإنتاج بنية إنشائية مناسبة لحاجة تفرضها وظيفيّة معيّنة وتستخدم في نفس الوقت المواد المناسبة لذلك الغرض. تعتبر آراء لو دوك قريبة من آراء راسكن ولكن من دون ذلك الشعور الرومانسي وقد قدّم المنظّران معاً الأساس للاحترام البالغ للقيم الاجتماعية التي يوفّرها التصميم الجيد ودور المهندس المعماري في إنشائها وذلك في نهاية القرن التاسع عشر.
لقد كان تأثير العمارة على سلوك الناس محط اهتمام المفكر والمنظر المعماري الألماني بول شيربرت ( Paul Scheerbart ) الذي تصور في عام 1914 عمارة افتراضية شفافة مع جدران ساترة من الزجاج تكاد أن تكون محسوسة مقدّماً بذلك واحداً من أكثر الأفكار راديكالية. إعتقد شيربرت أنّه إذا عاش الفرد وعمل في مبان شفافة فإنه سيتعيّن على ذلك الفرد إعادة التفكير في العمارة التقليدية وفي أنها قد وفّرت فعلاً سكناً رغيداً من قبل.
يضيف شيربرت بأن على ذلك الفرد أيضاً أن يقوم بوظيفته بشكل كامل مع وجود البيئة الطبيعية التي في الخارج ومع وجود الناس خارج المبنى أيضاً. مثل هذا التغيير في الظروف يتطلب تغييراً أساسياً للسلوك وتغييراً في المفاهيم السائدة للخصوصية.
هذا الأمر يتطلب أيضاً إعادة تعريف الطريقة التي ربطت الناس بالهندسة المعمارية لأكثر من ألفي سنة. يرى شيربرت أنّ باستطاعة العمارة لعب دور في المجتمع قادر على إحداث تغيير بالغ في طريقة عيش الناس وارتباطهم مع بعضهم البعض. لكنّه من ناحية أخرى لم يحدد مكان المهندس المعماري في كل هذا سوى افتراض أنّه بإمكان المصمم أن يدرك و يستفيد من كافة الفرص الجديدة التي تتيحها له التكنولوجيا الحديثة.
يؤكد هيرن ( 2003 ،Hearn ) أن فرانك لويد رايت (Frank Lloyd Wright) و والتر غروبيوس (Walter Gropius) و لو كوربوزييه (Le Corbusier) جميعهم اشتركوا في فكرة مبالغ فيها حول التأثير العميق للتصميم المعماري الجيد
و للمهندس المعماري الذي قام بالتصميم على المجتمع. شكّلت العمارة بالنسبة للوكوربوزييه حالة يتم من خلالها حل المشاكل لخلق بيئة مبنيّة أكثر صحيّة و كفاءة من وذلك من خلال تصميم محلي خال من الزوائد و يستخدم عناصر محليّة يستطيع الإنسان من خلاله أن يصحح من ميوله الماديّة التي ظهرت بشدّة في مجتمع القرن التاسع عشر و التي تمّ إدراكها و فهمها في الهندسة المعمارية. كان لوكربوزيه يدرك تماماً الآثار المترتبة لتصميماته المعماريّة على نمط حياة الناس و قال إنّ تأثير المهندس المعماري على مجتمعه يجب أن يكون مثاليّاً.
أعرب لوكوربوزييه و غروبيوس عن ثقتهما في قدرة التكنولوجيا الصناعية الحديثة على إزالة علل الماضي و بخاصة أهوال المدينة الصناعية في القرن التاسع عشر .
وضع غروبيوس إيمانه في إنشاء بيئات ماديّة محسوسة تكون جميع عناصرها وليس فقط العمارة مصممة بشكل جيد وجميلة وذات كفاءة ومنتجة صناعياً بطريقة تجعل منها متاحة من الناحية الاقتصادية لمعظم السكان واعتبر أن وظيفة المهندس المعماري هي بمثابة فاعل خير اجتماعي. لقد كان لتأثّر فرانك لويد رايت في وقت مبكر بمفهوم ترابط وإتحاد الجنس البشري مع الطبيعة الموجود في البوذيّة وإعجابه بالعمارة في اليابان إلى إهتمامه الدائم وبشكل أكثر من رواد الحداثة الأخريين باستخدام العمارة لمساعدة الناس على إنشاء علاقة صحيحة مع الطبيعة. نحو هذه الغاية كرس رايت اهتماماً خاصاً لتهيئة مواقع أبنيته الريفية في الطبيعة ومن ثم تصميم بيئة طبيعيّة تحيط بأبنيته الواقعة في المدن.
اعتبر رايت أن هندسته المعمارية قادرة على مساعدة الناس على تبني نمط حياة أكثر تعقلاً. مشروعه لمدينة بروداكر Broadacre)) في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي دمج وسائل الراحة لكل من المدينة والريف في مخطط إقليمي قليل السكان . مهندس هذا المجتمع أراد تصميم البيئة و التحكم بها بشكل مطلق وبالتالي وكما كانت جمهورية أفلاطون التي يجب أن يرأسها ملك فيلسوف فإن مدينة رايت يجب أن يحكمها معماري فيلسوف.
في الوقت الحاضر يقدّم المهندس المعماري المحترف نفسه كمترجم أو مفسّر (غير متطفّل) لاحتياجات العميل وساعياً بشكل رئيسي لتحقيقها. عندما يكون واقع المبنى المنفّذ أفضل من ذلك، فإن الأداء عندئذ وفي كثير من الأحيان يكون ناتجاً عن إبداع المصمم في كيفيّة تشكيل وتجميع البنية الهيكليّة والإنشائية للمبنى أكثر من إبداعه في تحقيق الغرض الوظيفي وكيفيّة استخدام المبنى وهذا يعني إبداع المصمم في الوسيلة بدلاً من الغاية. إذا كان المهندس المعماري في الوقت الحاضر لا يدّعي تحسين المجتمع من خلال التصميم الجيد فإنه مع ذلك قد ينتج أيقونة جديدة غير متوقعة في سياق خلق حل جذري لمجموعة الاحتياجات العملية للناس.

التعليم المعماري
اعتبر فيتروفيوس قدرات المهندس المعماري مهمة جداً لمشروع البناء وكان يعتقد أن تدريب المهندس المعماري له جانب عملي وآخر فكري مبيناً أهميّة كل من هذين الجانبين وتكاملهما على حد سواء. المواضيع التي وصفها ليست بعيدة عن المناهج في المؤسسات التعليمية في الوقت الحاضر وهي تشمل أحد عشر تخصصاً هي الرسم والهندسة والبصريات والحساب والتاريخ والفلسفة والفيزياء والموسيقى والطب والقانون وعلم الفلك.
بيّن فيتروفيوس الأهمية الفرديّة لكل تخصص وتأثير كل منها على التخصصات الأخرى كذلك أشار فيتروفيوس إلى أنه لم يكن باحثاً متعمقاً في أي منها و أ وضّح أن المهندس المعماري لا يحتاج إلى أن يكون خبيراً في أي من هذه الموضوعات و رأى انّه من المهم فهم المبادئ التي تنطوي عليها هذه التخصصات بحيث يمكن استخدامها بطريقة عملية. أما من وجهة نظر البرتي فإن مهندسي المستقبل المعماريين يجب أن يكونوا في مكان أقرب إلى الباحثين العلميين منه إلى البنّائين ولذلك قام بحملة لكسب قبول الفنون البصرية كتحصيل علمي ينتمي إلى الشأن الفكري وقد كان من المهم بالنسبة له الحصول على اعتراف يعتبر المهندس المعماري كباحث بدلاً من كونه مجرد حرفي كما كانت الحال عليه لفترة طويلة في المجتمع الإيطالي وبالتالي عمل ألبرتي على تأكيد الأهمية الكبيرة للنظرية المعمارية على حساب الممارسة في مجال التعليم المعماري و على اعتبار مهنته مهنة فنان وليست مهنة بنّاء .
سادت نظرة ألبرتي في النهاية وكان لذلك اثنان من العواقب المهمة. العاقبة الأكثر أهمية هي هيمنة التقاليد الكلاسيكية في العمارة الأوروبية وأصبح تعليم المعماريين فّنيّاً و نظرياً أكثر من كونه عمليّاً و تم تأسيس أكاديميات رسمية في نهاية المطاف مثل «مدرسة البوزارArts  École des Beaux» في القرن السابع عشر لنشر هذا النظام بالضبط وسيطرت هذه الأكاديميات على إعداد المهندسين المعماريين الشباب لمدة قرنين على الأقل بعد ذلك. العاقبة الثانية تركزت حول افتقار التدريب التقني للمهندسين المعماريين الأوروبيين وغيرهم ما أدى إلى عدم تتطويرهم لأي ابتكارات إنشائية مهمّة خلال الحقبة التي سادت فيها فلسفة التعليم هذه.
و أراد فيوليت لو دوك نقل التعليم المعماري إلى العصر الحديث و رأى أنّ تعليم الطفل الذي يظهر اهتماماً أو قدرة في المسائل البصرية يجب أن يتركز على الرسم مؤكداً أن تعلّم الرسم يجب ألا يكون من أجل تطوير المواهب الفنية ولكن لمساعدة الطفل على تعلم رؤية صحيحة لما ينظر إليه وتحليل ما يراه. وبين فيوليت لو دوك أنّ الهدف من ذلك هو تعّلم و تطوير التحليل المستقل للأشياء لأنّ الطفل يطور من خلال هذه الممارسة فكراً نشطاً، وهذا بدوره يعمل على تطوير مهارة التفكير التحليلي و إيجاد حلول للمشاكل.
 وأكّد فيوليت لو دوك أيضاً أنه عند متابعة التعليم العالي من قبل المهندس المعماري فإنه يجب عليه العمل في المكاتب المهنية وفي مواقع التشييد (مثلما يفعل الكثير من المتدربين اليوم) بالتزامن أو التناوب مع الأنشطة الأكاديمية. علاوة على ذلك جادل لو دوك في أن التدريب الأكاديمي يجب أن يتوقف عن كونه موجهاً بالكامل إلى الجانب الفني للعمارة و يجب أن يكون متوازناً مع الاهتمامات التقنيّة للمهندسين منتقداً التعليم المعماري الذي يركز على الفنون و كان ذلك موجهاً بشكل مباشر إلى الأكاديميّة الرسميّة ذائعة الصيت «مدرسة البوزار arts École des Beaux- » التي كان يحاضر فيها بنفسه قبل صدور كتابه «مقابلات عن العمارة » وكان رأيه أن الأعمال الإبداعيّة المبتكرة في فرنسا في ذلك الوقت جرى تصميمها من قبل المهندسين الإنشائيين وليس المعماريين.
اعتمد موقفه من قبل العديد من الجامعات وخاصة في أمريكا في أوائل القرن العشرين وبدأت مناهجها تشبه بشكل متزايد مزيجاً من صيغ فيتروفيوس وفيوليت لو دوك. في العشرينيات من القرن الماضي أكدت مدرسة الباوهاوس تحت إشراف والتر غروبيوس بشدّة على الجوانب العمليّة في التعليم المعماري وركزت على أنه قبل الانتقال إلى الحياة العمليّة يجب على الطلاب إتقان جميع أنواع المهارات العمليّة المتصلة بالمباني سواء في ورشات العمل في الجامعات والمؤسسات التعليميّة أو التلمذة في الشركات و المكاتب المعماريّة و ساهم ذلك في إدراج التدريب العملي في التعليم المعماري وهناك كمية معينة من التدريب العملي تم ترحيلها إلى المناهج التي فرضها غروبيوس على كلية الدراسات العليا للتصميم في جامعة هارفارد والتي انتشرت من هناك إلى مدارس الهندسة المعمارية في جميع أنحاء الولايات المتحدة. التدريب المعماري اليوم يميل على نحو متزايد للتأكيد على التدريب التقني للاستجابة لمطالب الشركات التي توظف خريجين جدد.
العديد من أرباب العمل يعتبرون معرفة برامج التصميم بمعونة الحاسب CAD أمراً مفروغاً منه و هم يعتبرون أنّه كلّما زاد تعليم العديد من المبتدئين التفكير التحليلي فإنهم يكتسبون المهارات العملية بسهولة أكبر و يصبحون فعالين في أعمالهم.

نطاق نشاط المهندس المعماري
لقد اختلفت مجموعة النشاطات والأعمال التي كان المهندس المعماري يقوم بها بشكل كبير على مر الزمن وتطوّرت عموماً في اتجاه المزيد من التخصص. بنظر فيتروفيوس يجب أن يكون إنشاء جميع أنواع المباني مصحوباً بصنع آلات معرفة الوقت و بناء الآلات التي تستخدم في تشييد المباني وبعبارة أخرى كان المهندس المعماري يعادل كل من المهندس المدني والمهندس الميكانيكي إضافة إلى المهندس المعماري في عصرنا هذا و كان متوقعاً منه أن يكون قادراً على بناء منشآت و آلات عسكرية بالإضافة إلى المنشآت المدنية.
أما في ما يخص البيئة المبنية وحدها فقد حدد فيتروفيوس أربعة أنشطة تنطوي على خبرة خاصة :
- وضع مخططات لمدن جديدة يتطلّب التمكن من قضايا الصحة والسلامة و الأمن.
- بناء الهياكل و الصروح الاحتفالية يتطلّب التمكن من الطرز المعمارية و ترتيبها.
- بناء المدرجات يتطلّب التمكن من الصوتيات.
- بناء المنازل يتطلّب معرفة تفصيلية بالوظائف وعلاقاتها وتقنيات الديكور والزخرفة.
باختصار ، على المهندس المعماري أن يكون واسع الأفق من الناحية الفكرية و بارعاً من الناحية التقنيّة وبالنسبة لألبرتي يجب أن يركز المهندس المعماري على الفن والنظريات وملمّاً في نفس الوقت بالهندسة ولكنّه في الممارسة الفعلية يقوم بتصميم المباني والنصب التذكارية بشكل رئيسي. يعتبر ألبرتي أن التحصينات العسكرية تقع ضمن مسؤوليات المهندس المعماري وكذلك أيضا صنع الآلات المستخدمة في تشييد المباني أما الميكانيك فيترك إلى حد كبير للبنّاء و بذلك أصبح نطاق النشاط المعماري أضيق مما أدى إلى ظهور انقسام مهني بين المهندس المعماري والمهندسين الآخرين واستمر هذا الانقسام في الاتساع ليصل إلى ذروته في تعريف جديد للمهنة محورها الفن وكما اتسعت تلك الفجوة أصبح عمل المهندسين المعماريين متركزاً على الجانب الفني للمباني والواجهات والبيئات الخارجيّة لا سيما الحدائق الكبيرة والمتنزهات والساحات والجادات. من ناحيته دعى فيوليت لو دوك إلى تداخل أكبر بين أنشطة المهندس المعماري والمهندسين الآخرين ولكنّه في نظرياته المعماريّة أبقى على المهنتين منفصلتين. المهندس المعماري بحسب تصوّره مسؤول بشكل كامل عن تصميم وتشييد المباني المدنية وكان لابد من انتظار أصحاب الرؤى في أوائل القرن العشرين مثل شيربيرت والجيل الأول من المحدثين مثل لو كوربوزييه ورايت لتوسيع نطاق نشاط المهندس المعماري ولو من الناحية النظرية ليشمل تخطيط المدن و الأقاليم . في الوقت نفسه وسّعت الاطروحات النظرية التي تكوّنت تحت تأثير حركة الحرف و الفنون في إنكلترا من نطاق المهندس المعماري ليتضمّن مسائل أصغر من تصميم الأبنية بما فيها من خصائص داخلية محددة مثل الأثاث و السجاد وورق الجدران وحتى الأطباق وأدوات المائدة في مسعى لتعزيز تصميم بيئة كليّة متكاملة.

السلوك المهني للمهندس المعماري
شكّلت مسألة السلوك المهني مصدر اهتمام العديد من المنظرين البارزين للهندسة المعمارية. رأى فيتروفيوس مثلاً أن الكثير من عديمي الضمير وممن لم يحصلوا على تدريب كاف قد قدّموا أنفسهم كمعماريين وأعطوا صورة منقوصة عن المهنة وعن المهندس المعماري لذلك من المهم جداً للممارس الجدّي للمهنة الحذر في جميع جوانب السلوك المهني التابع لها.
فيما يتعلّق بالحصول على العمل اقترح فيتروفيوس أنه بدلاً من الضغط من أجل الحصول على العمل فإن المهندس المعماري يجب أن ينتظر حتى يُطلب منه ذلك وقد ينتظر إلى أن يأتي إليه العملاء أكثر من مرة وحذّر من أن قدرة العميلcustomer واستعداده للوفاء بالالتزامات المالية للمشروع يجب أن تدرس بعناية.
في نفس الوقت أشار فيتروفيوس إلى أنّ المسؤولية المطلقة عن إعطاء تقديرات واقعية ودقيقة لتكلفة المشروع تقع على عاتق  المهندس المعماري حتى انه اقترح خصم التكاليف الزائدة إذا تجاوزت ربع الكلفة الكليّة المقدّرة من أتعاب المهندس المعماري.
كذلك نصح ألبرتي المهندس المعماري بأن يكون حذراً في الحصول على العملاء و أن يتصرف بأعلى درجات الاستقامة. علاوة على ذلك، شدّد ألبرتي على الأهميّة القصوى لصحّة تصميم المبنى قبل البدء في البناء من أجل تجنب النفقات غير اللازمة لتصحيح العيوب و من اجل هذا الهدف أوصى بدراسة التصميم بقدر كبير من التفصيل و بناء نموذج مصغر بحيث يتمكن كل من المهندس المعماري و العميل من دراسة التصميم المقترح بعناية قبل اتخاذ اي التزام نهائي .في هذا المجال.
أبدى راسكين اهتماماً بالغاً بقدرة المهندس المعماري على ممارسة المهنة بتأثير الوازع الأخلاقي والضمير إلى أقصى درجة ممكنة من أجل إنتاج مبنى يحقق أعلى جودة ممكنة ضمن حدود الإمكانيات وضمن تفويض العمل الذي حصل عليه المهندس المعماري واهتم راسكين بشكل خاص في أنّه يجب على المهندس المعماري أن يحدد أفضل المواد بأسعار معقولة وأن يتأكد من عمل هذه المواد باستخدام مهاراته بأقصى حدودها و يجب عليه ألا يدّخر جهداً أو مواد أو موارد بشرية قد يحتاجها العمل وينبغي أن يتجنب بشكل خاص العناصر المنتجة صناعياً التي تقلّد ما هو مشغول يدوياً إلى حد كبير. وكان المعنى العام ضمنيّاً أن المهندس المعماري مسؤول مسؤولية كاملة عن المنتج النهائي وأن الإشراف الدقيق على عمليّة البناء يعتبر ذا أهميّة مماثلة تقريباً لعمليّة التصميم نفسها.
أما في القرن العشرين فإن توضيح المبادئ التي توجّه السلوك المهني للمهندس المعماري يتم من قبل المؤسسات و المنظمات المهنية مثل النقابات و أنّ السلوك المهني مقيد بشكل صارم من قبل التشريعات القانونيّة التي تحاول ضمان حدوثه.

المراجع

- Hearn, F. M. (2003) “Ideas That Shaped Buildings” MIT Press, Cambridge, Massachusetts, USA
- Unwin, S. (2009) “Analysing Architecture”, 3rd ed., Routledge, London, UK.


0 comments: