Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

آفاق السلوك العصابي ....الأدب العلمي العدد الواحد والثلاثون


لبنى أسعد

أدركت الأم بعد خروجها من عيادة الطبيب النفسي بعد تفاقم سوء الحالة النفسية لطفلها أن : السبب الأساسي من خوف ابنها الشديد من الظلام يعود في حقيقة الأمر إلى خوفه منها تحديداً وليس من الظلام والذي كما بيّن الطبيب النفسي أنه حدث نتيجة ما يسمى بـ (الإبدال) فالطفل الذي يكن كراهية لأحد والديه مع خوفه من التعبير عنها قد يستبدل هذا الخوف بخوف من الظلام لأنه أكثر تقبلاً له ، ولهذا يصبح الخوف من الظلام تعبيراً رمزياً عن الخوف من أحد الوالدين ... بذلك لا تختلف هذه الأم عن سواها من الأشخاص الذين لم يدركوا بعد ماهية (السلوك العصابي) .
حيث تتمثل الخاصية الأساسية للسلوك العصابي بمستوى عال من القلق، وهو الشعور بخطر متوقع غالباً يصعب التعرف على أسبابه ورغم أن المصابين به يشعرون بالتعاسة والضياع لكنهم يتمكنون من إدراك الأعراض التي يعانون منها ، وبإمكانهم تأدية أعمالهم اليومية والقيام بوظائفهم بشكل طبيعي فهم يستطيعون الاستمرار في العيش في ظروف الحياة العادية اليومية مع معاناتهم من مشكلات معينة تتصل بجانب معين من سلوكهم الذي يثير القلق كالخوف الشديد من الاخفاق في العمل .
تندرج ضمن السلوك العصابي أنماط معينة من السلوك صنفت بموجب الدليل الإحصائي للتشخيص "DSM " إلى عصاب القلق وعصاب الخوف وعصاب الوسواس القهري والعصاب الهستيري من النمط التحويلي والعصاب النوراستيني وعصاب اللاشخصانية وعصاب الاكتئاب وعصاب توهم المرض.

عصاب الخوف(المخاوف المرضية):
يبدو هذا العصاب بخوف شديد ضاغط ملح يتصل بموضوعات أو مواقف معروفة لا يتناسب مع الخطر الذي تحمله ، كالخوف من الأماكن المرتفعة والوحدة والدم والظلام والمرض والحيوانات والسخرية ... تحدث هذه المخاوف عادة بواسطة الاشتراط التقليدي كأن يرتبط الظلام وهو أصلاً مثير محايد بصوت مفاجئ ويجعل من الظلام مثيراً شرطياً يثير الخوف ، كذلك قد تكتسب المخاوف المرضية مباشرة من خلال الخبرات التي تثير الخوف الشديد كالمعارك الحربية والكوارث وما إلى ذلك.
أما «فرويد » رائد التحليل النفسي فيرى أن المخاوف المرضية هي عبارة عن صراعات لاشعورية تتمركز حول الجنس والعدوان. يترافق عصاب الاكتئاب عادة مع أفكار وتأملات مثيرة للقلق وذلك عندما يواجه أصحاب هذا العصاب المواقف التي ترتبط بخوفه ولا يستطيع السيطرة والتحكم بهذه التأملات والأفكار والمشاعر، فالشخص الذي يخاف الأماكن المغلقة (المصاعد الكهربائية) كثيراً ما تراوده تساؤلات متعددة : عن صوت المصعد وإمكانية تعطيله أو انقطاع التيار الكهربائي وهذه من شأنها أن تزيد من تفاقم عصاب الخوف لديه.

عصاب الذعر Panic Disorder :
يبدو عصاب الذعر أو عصاب «القلق »"anxiety" شعوراً مستمراً بالقلق تتخلله بين الحين والآخر نوبات قلق فجائية حادة مصحوبة بتوترات جسمية وصعوبة في التنفس ورعشة وغثيان واضطرابات في معدل ضربات القلب وفي الجهاز الهضمي وتعرق شديد وصداع ، وتصدر عن الأشخاص المصابين بهذا العصاب ردود أفعال زائدة نحو أقل الضغوط دون تمكنهم من معرفة أسبابها كذلك نجدهم يشعرون بحرج شديد من نوبات القلق الحادة والمصاحبة باللإضطرابات النفسية ، كما يستمر هذا التأثير حتى في أثناء النوم فيصاب الأشخاص بالأرق والتعب، الأمر الذي يؤثر في نشاطهم وقد ينتهي بهم الأمر إلى الاكتئاب أو قد يحاولون الهروب عن طريق تعاطي الكحول أو العقاقير.
يختلف عصاب القلق عن القلق العادي الذي يبدو على أنه شعور مؤقت بالقلق يمكن أن يعزى إلى سبب معين كقلق الطالب من الامتحان الذي سرعان ما يتلاشى بمجرد الانتهاء من الامتحان .
ينشأ هذا العصاب عن طريق التعلم الاشتراطي، حيث يرتبط القلق بمواقف أخرى من خلال تعميم المثير ، ويصبح عندها القلق سائداً وقد يتم تعلم القلق عن طريق اكتساب استجابة الابتعاد والإحجام بوساطة الملاحظة والخبرة المباشرة.
أما «فرويد » فيرى أن عصاب القلق ينشأ نتيجة الصراع اللاشعوري بين «الأنا » و «الهو » عندما يحاول «الأنا » منع «الهو » من التعبير عن عندما يحاول «الأنا » منع «الهو » من التعبير عن رغباته المتعلقة بالجنس والعدوان في المواقف الخطيرة يستمر القلق لأن الشخص كما يعتقد «فرويد » لا يستطيع الهروب أو مواجهة الصراع لأنه لاشعوري كما لا يستطيع تحقيق رغبات «الهو».

عصاب الوسواس القهري OBSESSIVE COMBULISE :
يظهر هذا العصاب في اقتحام وعي المصاب أفكاراً غير معقولة أو في صدور أفعال غير مرغوبة تتكرر بطريقة مضطربة مع معرفة صاحبها أنها زائدة وغير معقولة.
يطلق على الأفكار والهواجس المتكررة الوساوس وتعرف الأفعال المتكررة ب «الأفعال القهرية » ترتبط عادة الوساوس والأفعال القهرية ارتباطاً وثيقاً فيما بينها وتسبب لصاحبها الأسى، كما تستهلك الكثير من وقته وتعطل أداءه اليومي ونشاطاته الاجتماعية وعلاقاته المعتادة بشكل واضح ، والمظهر الرئيسي لهذا العصاب سواء أكان وسواساً أو أفعال قهرية هو فقدان الإرادة وعدم استطاعة التغلب عليها، ومن الأعراض التي تشير إلى وجود الوساوس القهرية التي يتضمنها «الدليل الإحصائي والتشخيص للاضطرابات العقلية » ما يلي:
- وجود أفكار وصور ذهنية لجوجة متعاقبة يشعر بها الشخص مع شعوره بأنها متطفلة وغير مناسبة وتؤدي إلى الشعور بالأسى الواضح كخوفه الزائد من الفيروسات وما تسببه من أمراض.
- معرفة صاحب تلك الأفكار والصور الذهنية بأنها نتاج عقله.
- محاولة تجاهل تلك الأفكار والصور أو قمعها أو تحييدها بفكرة أخرى أو بفعل آخر 0 أما الأفعال القهرية فيمكن الإشارة إلى بعض أعراضها كـ:
وجود أفعال تكرارية والترتيب والمراجعة والتدقيق ، أو أفعال عقلية كالعد وتكرار الكلمات في صمت ، وتترافق عادة بشعور صاحبها بأنه مدفوع لأداء الاستجابة رداً على وجود وسواس أو وفقاً للقواعد التي لابد من أدائها على نحو صارم.
كما تهدف الأفعال القهرية إلى منع الأسى أو تخفيفه أو منع حدث أو موقف مخيف ، تلك الأفعال قد تكون غير مرتبطة بطريقة واقعية ، أو قد تكون زائدة بشكل واضح 0 تظهر الوساوس القهرية عادة على شكل خمس صور نمطية : قد تظهر أعراضها على شكل شكوك وسواسية وعدم التأكد من أن المهمات المعينة قد نفذت ، كإغلاق النوافذ والأبواب ليلاً.
وقد تظهر على شكل حفزات وسواسية تبدو على شكل دفعات قوية تدفع صاحبها لأداء فعل قد يكون تافهاً أو عدوانياً أو مربكاً اجتماعياً كما قد تظهر على شكل الخوف من فقدان القدرة على ضبط الذات ، كما يمكن أن تبدو على شكل صور ذهنية وسواسية وهي استمرار رؤية الصورة الذهنية التي كان قد رآها صاحبها حديثاً.
كذلك تتنوع الأفكار التي تدور حولها الأفكار الوسواسية رغم أن أكثرها شيوعاَ يتعلق بالعدوى، أما الأفعال القهرية فهي أنماط سلوكية طقوسية تتفق غالباَ مع الأفكار الوسواسية، ورغم هذا الإرتباط فإن الوساوس تزيد من شعور صاحبها بالأسى وعدم الأرتياح، لكن الأفعال القهرية تخفف من هذا الشعور وتتعلق معظم الأفعال القهرية بالتنظيف أو بالمراجعة المتكررة ويرتبط التنظيف بشعائر الغسيل والتنظيف والخوف من الاتصال بالأشياء المعدية، لهذا يقضي الشخص المصاب بالأفعال القهرية ساعات طويلة بالاستحمام وتعقيم منزله فهذا السلوك يشعره بالأمان، وترتبط المراجعة المتكررة عادة بالخوف من وقوع حادث مدمر كالذي يراجع باستمرار موقد الغاز وهذا يشعره بالأمان لأن تأكده من موقد الغاز يشعره بالارتياح من عدم وقوع أحداث مدمرة.
ومن الملاحظ خلال الحياة اليومية أن الكثير من الأشخاص يكررون بعض التصرفات وتتكرر كذلك في أذهانهم أفكار معينة كالذي يفكر في تسويغ معين أو اعتراض ما أو يتشوق لحفل ما، إن مثل هذه الأفكار كذلك الأفعال عندما تخدم هدفاَ معيناَ ولا تسبب أي توتر أو اضطراب فإنها لا تدخل ضمن إطار العصاب الوسواسي.
وتنشأ عادة الوساوس والأفعال القهرية عن طريق التعلم والاكتساب فحينما يشعر شخص ما أن عملا معينا أَو فكرة ما تقلل مما يثير خوفه فإنه سرعان ما يتعلمها أي أن احتمال تعلم استجابة ما يزداد إذا كانت هذه الاستجابة تؤدي إلى إنهاء مثير منفر أو إيقافه.
أما «فرويد » فيرى أن سبب ذلك يعود إلى عادات التدريب التي درب عليها الطفل للعملية الخاصة التي تتراوح بين عمر 1- 4 سنوات فإذا درب على ذلك بالعنف وبتفريط فإنه يتثبت في هذه المرحلة ويعاني من الصراع بين « الهو » و «الأنا » ويعبر عن ذلك بالغضب وبما أن تلك المشاعر غير مقبولة من قبل «الأنا » لهذا يتم التعامل معها من خلال ما يسمى بالتكوين العكسي ويتحول بهذا الغضب إلى الحب أو العناية المفرطة أو قد تفضي «الأنا » النزاع بواسطة تصرفات معينة كالعد.

العصاب الهيستيري:
يقصد بالعصاب الهستيري الاستجابات التي تتيح لصاحبها الهروب من المواقف المثيرة والمسببة لقلقه، قد يتمثل هذا العصاب بتحولات في الشعور والوعي وهو ما يدعى بالعصاب الهستيري التفككي ويبدو في فقدان الذاكرة والمشي أثناء النوم وتعدد الشخصية وغيره، وقد يتحول القلق الناتج عن المواقف الضاغطة إلى أعراض عضوية وهذا ما يعرف بالعصاب الهستيري التحويلي .
1-العصاب الهيستيري التفككي :
يشتمل هذا العصاب على مجموعة من الأعراض تتميز جميعها بتحولات في الوعي كفقدان الذاكرة المؤقت والنسيان المزمن المرضي، يحدث فقدان الذاكرة المؤقت ويستمر بضع دقائق أو قد يستمر مدات طويلة ويتناول الخبرات والتجارب الحديثة لتبدأ بعد ذلك حياة جديدة وتصرفات بطريقة سوية ، ويعد المشي في أثناء النوم من أمثلة العصاب التفككي أما المثل الشائع لهذا العصاب فيتمثل في الشخصية متعددة الأوجه.
- تعدد الشخصية (الشخصية متعددة الأوجه): يعد هذا الاضطراب وسيلة للهروب من القلق ، ويبدو في نمطين أو أكثر من الشخصيات المختلفة يتم التحول بينها بشكل مفاجئ ودون إمكانية السيطرة على ذلك التحول، كما أن المصاب بتعدد الشخصية لا يدرك منها إلا شخصية واحدة في فترة زمنية معينة ، ويورد الدليل التشخيصي الاحصائي عدة معايير تشخيصية لهذا الاضطراب الذي يطلق عليه أيضاً «اضطراب الهوية الانشقاقي » من هذه المعايير:
- وجود هويتين أو حالتين متمايزتين أو أكثر من الشخصية لكل منها نمطه الدائم نسبياً من العلاقات والإدراكات والتفكير بالبيئة وبالذات.
- سيطرة هويتين على الأقل أو حالتين من حالات الشخصية بشكل متعاقب على سلوك الشخص.
- العجز عن تذكر المعلومات الشخصية المهمة ، وهذا العجز أكثر شمولية وأكثر امتداد من النسيان العادي.
- الشعور بصداع حاد أو بنوم عميق. يعد اضطراب الذاكرة من أكثر الملامح أهمية لتعدد الشخصية.
فالشخصية الأصلية لا تعي بوجود الشخصيات البديلة وغالباً ما يشعر المصاب بتعدد الشخصية بالقلق نحو الفجوات الناقصة التي لا يمكنه تذكرها وتفسيرها ، لأن شخصية واحدة هي التي تسيطر على سلوك صاحبها وتتفاعل مع البيئة المحيطة. وقد تكون الشخصيات البديلة في بعض الحالات واعية بعضها بعضاَ وهذا ما يسمى بالوعي المشترك فتدرك جميع الشخصيات بعضها في الوقت نفسه الذي تسيطر فيه شخصية واحدة على الحالة العامة للسلوك. قد يحدث أحياناً ألا يتم التفريق بين تعدد الشخصية والفصام مع أن الشخصية في حالة الفصام تكون منقسمة ومفككة وغير مترابطة، أما في حالة تعدد الشخصية فتكون كل حالة من حالات الشخصية متكاملة متناسقة لكل منها ذكرياتها وصداقاتها وأنماط سلوكها، إضافة إلى ذلك هناك علامات مميزة لتعدد الشخصية كوجود الفجوات الزمنية واستخدام صاحبها كلمة «نحن » بالمعنى الجمعي للكلمة وسهولة تنويمه مغناطيسياَ واستثارة الشخصيات الأخرى زيادة على ذلك يتمكن المحيطون من ملاحظة التغيرات الواضحة في سلوك صاحب الشخصيات المتعددة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن اضطراب تعدد الشخصية نادرة الحدوث لهذا من بين التفسيرات البسيطة لحدوثه إمكانية افتعال أعراضه إرادياً لمحاولة جذب الانتباه أو تجنب المسؤولية ك الشخص الذي يدعي الجنون عندما يصدر بحقه حكم الاعدام ليحصل على البراءة ويتهرب من تنفيذ العقوبة بحقه، كما ينشأ هذا الاضطراب نتيجة تأثير المعالج في العميل فيستجيب لتلميحات المعالج ويتزود منه بمعلومات وإيحاءات عن تعدد الشخصية ومن ثم يتصرف بشكل يتسق مع تلك المعلومات والايحاءات ، ذلك رغم أن قلة من المعالجين هم الذين يبحثون في أثناء العلاج عن تعدد الشخصية. ويبين «بتنام» (1991) أن تعدد الشخصية هو اضطراب في الوعي وفقدان السيطرة الإرادية وأصحابها هم ضحايا سوء المعاملة البدنية في أثناء الطفولة ،كما أشار « بليس » عام ( 1986 ) إلى أن المصابين باضطراب تعدد الشخصية هم أناس يستخدمون التنويم المغناطيسي الذاتي ويفرطون فيه دون قصد، إنهم يهربون إلى الحالات التنويمية لتجنب الصراع أو التهديد الشديد..
لذلك فإن هذه العملية رغم أنها قد تكون مفيدة في البداية لأنها تحمي الشخصية من الخبرات المؤلمة إلا أنها كثيراً ما تفقد القدرة على السيطرة على هذه العملية وتعجز عن التوقف عنها.
2-العصاب الهيستيري التحويلي :
قد يتحول القلق الناتج عن المواقف الضاغطة إلى أعراض جسمية لا تستند إلى أسس عضوية أو فيزيولوجية، أي أن هذا العصاب هو استجابة جسمية تظهر على شكل اضطرابات وأعراض جسمية كارتفاع في ضغط الدم وقروح المعدة ، وهذه الاستجابات تتيح لصاحبها الهروب من المواقف المثيرة للقلق. تظهر هذه الاستجابات الجسمية أحياناً بأعراض حسية حركية غير مألوفة كالشلل وفقدان الرؤية ، كما قد تتخذ في حالات أخرى صورة حسية لا تتفق مع أعراض أي أمر معروف، كذلك قد تختفي تلك الأعراض بصورها المتعددة في أثناء النوم أو التنويم المغناطيسي وقد تظهر في بعض المواقف وتختفي في مواقف أخرى.
يطلق عادة على العصاب التحويلي «الأمراض النفسفزيولوجية » ويتم تصنيفها وفقاً للجهاز المتأثر إلى:
- اضطرابات الجلد: كالتهاب الجلد العصبي وجفاف الجلد.
- اضطرابات التنفس: كالربو الشعبي وفرط التنفس (التنفس بسرعة شديدة تؤدي
غالباً إلى الإغماء).
- اضطرابات القلب والأوعية الدموية: كالصداع النصفي وارتفاع ضغط الدم.
- الاضطرابات المعدية المعوية : كقرحة المعدة وقرحة القولون.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الحالات العقلية والانفعالية تؤثر في نشاط الجسم وتحدث تغيرات فيزيولوجية عديدة كزيادة معدل ضربات القلب وضغط الدم إلا أنها لا تدخل ضمن الاضطرابات النفسجسمية إلا إذا استمرت مدة طويلة ولم تظهر فقط بصورة مؤقتة.
لقد فسرت الاضطرابات النفسجسمية من قبل النظريات العضوية ، فمنهم من يرى أن ضعف عضو معين من أعضاء الجسم نتيجة أسباب وراثية أو نتيجة سوء التغذية أو الأمراض التي تجعل صاحبها عرضة للتوتر ، فالشخص المهيأ للإصابة بالربو نتيجة التوتر هو صاحب الجهاز التنفسي الضعيف ، والشخص المهيأ للإصابة بارتفاع ضغط الدم هو المهيأ وراثياً ليرتفع ضغط دمه حين يتوتر والشخص المهيأ للإصابة بقرحة المعدة هو المهيأة معدته للإفراز الزائد تحت ظروف غامضة. وهناك من يرى أن الأفكار والتخيلات يمكن أن تستثير الجسم وتهيئه ليستجيب للخطر بزيادة معدل التنفس وزيادة نسبة الدم في العضلات وإطلاق السكر في مجرى الدم كالاشتراك في سباق الجري مثلاً. ما المحللون النفسيون فيرون أن الاضطرابات النفسجسمية هي مظاهر رمزية للصراعات المكبوتة ، فيرى مثلاً «فرانز السكندر » عام(1950) أن كبت الحب الوالدي ما أن الفشل في الامتحان غير مهدد في حين يعده شخص آخر كارثة ، وقد تكون أعراض شخص ثالث غير مهيأة للاستجابة للتوتر بطريقة مرضية لكنه قد يفسر الرسوب في الامتحان أنه شديد التهديد. معنى ذلك لابد من الأخذ بعين الاعتبار عدة عوامل لتفسير هذه الاضطرابات النفسجسمية.

عصاب الاكتئاب Depression :
من مظاهر الاكتئاب البارزة الشعور بالحزن العميق والأسى وانحطاط الروح المعنوية وهبوط الهمة وانعدام الأمل والإنسحاب الكامل من المجتمع ، فالشخص المكتئب يشعر أنه مهمل ولا حول ولا قوة وغير قادر على التحكم بنفسه وتوجيه حياته ، فيهمل واجباته ويبتعد عن تحمل مسؤولياته وعن ممارسة أي نشاط ممتع كالهوايات والترفيه وتصبح جميعها أمور لا تروقه حتى يفقد شهيته للطعام كما قد ينتابه الشعور المثقل بالذنب والأفكار المحملة بالموت ، وقد يمر بعض المكتئبين بحالات من الهلوسة والاعتقادات غير العقلانية كذلك الأمر.
يظهر الاكتئاب في البداية على شكل استجابة أشبه ما تكون بشعور الحزن وتأتي رداً مباشراً للإحباط الواقع أو الخوف من الإحباط المتوقع ، سرعان ما تتطور وتتعقد وتصبح بعد أن يألفها صاحبها ويختبر تأثيرها في رفع الضغط عن نفسه أسهل الاستجابات وأقربها ، يمارسها نحو أية صعوبة سواء أكانت صعوبة إحباطية أو صعوبة صراعية ذاتية.
تبرز أعراض الاكتئاب من خلال حديث المكتئب وحركاته فيبدو في صورة أسى عميق قد يصل به إلى حد الجمود الوجداني أو في صورة ثبوط الهمة والعزيمة التي تصل إلى حالة من اليأس التي تبعده عن أية محاولة للكفاح والقتال أو في صورة هبوط حركي ذهني يجعل حركاته بطيئة متخاذلة كذلك يبطؤ تفكيره وأحاديثه، ورغم ذلك ففي معظم حالات الاكتئاب لا يكون المكتئب واعياً ومنتبهاً لما يعانيه ولا إلى طبيعته.
ومما يجدر الانتباه إليه أن أعراض الاكتئاب قد تختفي آلياً فيبدو عندها المكتئب في حالة مرح ونشاط أو قد ينزع إلى الاعتزال عن الحياة الاجتماعية ويمتنع عن الممارسات الاجتماعية المختلفة (زيارات حفلات مشاركة في الأفراح والأحزان وما إلى ذلك) أو قد تختفي أعراض الاكتئاب وتظهر بشكايات جسدية وأوجاع وآلام ومتاعب تكون مهرباً يهرب إليها المكتئب بوعيه وشعوره ويحتمي فيها من هجمات الاكتئاب فهي بهذا آلية دفاع عقلية ضد الاكتئاب مما يعني أن الاكتئاب يمكن أن يتوارى وراء أعراض فيزيولوجية المظهر كفقدان الشهية للطعام والإعياء الشديد أو النوم والإمساك وسوء الهضم.
تسود استجابات الاكتئاب عادة في مرحلة الشيخوخة أكثر من أي مرحلة أخرى ذلك بحكم التدهور العضوي في هذه المرحلة التي تجعل الشخص غير قادر على احتمال ضغط الإحباط الواقع أو المتوقع لهذا فإن استجابات الاكتئاب تتماشى مع الحالة العضوية لمرحلة الشيخوخة.
تتشابه استجابات الاكتئاب الخفيفة مع حالات الحزن التي تحدث نتيجة فقدان قريب أو عزيز من حيث المزاج الحزين وفقدان الاهتمام بالعالم الخارجي وكف النشاط لكنها تتميز عن استجابات حالة الحزن باستمرارها أكثر من شهرين إضافة إلى أنها تتضمن مظاهر العداء نحو الآخرين، ويمكن أن تتطور استجابات الاكتئاب كغيرها من الاستجابات من مجرد استجابات بسيطة إلى استجابات حادة عنيفة مزمنة عصابية أو إلى استجابات ذهانية وهي أكثر عمقاً وأشد عنفاً من الاستجابات العصابية وتصاحبها الهلوسة والأوهام المرضية والهياج الحركي والتفكير بالانتحار.
يحدث الاكتئاب عادة نتيجة التعرض للأحداث الضاغطة خلال الحياة اليومية والمترافقة بالتوتر والأحداث الحادة كما يراها «براون » هي التي يترتب عليها تأثيرات طويلة المدى كالطلاق مثلاً،لكن هذه الأحداث الضاغطة لا يمكن أن تعرض صاحبها للاكتئاب إلا إذا ترافقت مع افتقار المهارات الاجتماعية والدعم الاجتماعي (تعاطف الآخرين مع سلبية في مزاج الآخرين وفي سلوكهم كما أشار إلى ذلك كل من «كوتليب » و «ملتزر »عام ( 1987 )فإنهم بهذا ينفرون من مصادر الدعم الاجتماعي خاصة وأن تفاعلات المكتئبين الأسرية أكثر ميلاً للشجار ويحاولون عزل أنفسهم عن الآخرين.
وعلى هذا الأساس يعد تعليم المكتئبين طرائق أكثر كفاءة للتعامل مع الآخرين واعتبارها وسيلة مهمة للعلاج لأن الدعم الاجتماعي يساعد على التغلب على الأحداث الضاغطة، كذلك ومع أهمية الأحداث الضاغطة والمظاهر الاجتماعية والسلوكية للاكتئاب فإن الطريقة التي تدرك بها أحداث البيئة وتفسير هذه الأحداث ونتائجها تعد من الأمور المهمة في حدوث الاكتئاب ، وعلى هذا الأساس فإن نظرية «اليأس وانعدام الأمل » ترى أن توقع الأحداث السالبة من شأنه أن يؤدي إلى نمو اليأس وانعدام الأمل وهذه بداية أعراض الاكتئاب ، أما توقع عدم حصول النتائج المرغوبة أو توقع النتائج المنفرة مع اعتقاد صاحب هذه التوقعات بأنه غير قادر على تغيير أي شيء فإن هذا يرجح نمو اليأس ، معنى ذلك أن نظرية «اليأس وانعدام الأمل » ترى أن من لا يرى من الأحداث إلا السالبة وينشغل بها ينمو لديه اليأس وينعدم أي بريق للأمل هذا بدوره بداية الاكتئاب ،فالمكتئب لا يجد في المشكلات غير المهمة إلا الكوارث ويبالغ بمواطن الضعف والفشل ويقلل من مواطن القوة والإنجازات المهمة التي تحدث معه. ويرى أصحاب هذه النظرية أن حالة اليأس رغم أنها تتحدد بتوقيع حدوث النتائج المنفرة وعم حدوث النتائج المرغوبة إلا أن حالة اليأس لن تحدث بتلك الخبرات فقط بل تعتمد أيضاً على استدلالات تتعلق بأسباب الأحداث ونتائجها ومضامينها ، لهذا يشعر بعض الأشخاص باليأس ولا يشعر به آخرون ويرجح بالتالي احتمال حدوث اليأس في حالة إدراك أهمية الحدث وثبات أسبابه واستقرارها وأهمية نتائجه واستمراريته وسعة انتشاره أكثر من أرجحية احتمال حدوثه في حالة إدراك أن الأحداث غير مهمة وقصيرة الأمد ومحددة النتائج .
يوجد إلى جانب الاضطرابات العصابية المشار إليها اضطرابات عصابية أخرى منها: عصاب «توهم المرض » الذي يبدو بتوهم صاحبه بأنه مصاب ببعض الأمراض المتخيلة وغيرها من الأمراض الجسمية، كذلك «العصاب النوارستيني » الذي يبدو بشعور مزمن بالتعب والضعف، كذلك عصاب «اللاشخصانية » حيث يبدو العالم لدى المصاب به بأنه زائف مع شعوره بالاغتراب عن الذات وعن البيئة المحيطة.
بسبب تداخل الأسباب السيكولوجية مع الأسباب الفيزيولوجية في تفسير الأعراض التي قد لا يفهمها الإنسان العادي بدون مساعدة الأخصائي النفسي المناسب ؛ لذلك لابد من التركيز على موضوع التوعية النفسية وأهميته للوالدين من جهة والمجتمع من جهة أخرى وذلك من خلال القيام بفعاليات توعوية في المدارس والجامعات برعاية المنظمات والمؤسسات ذات الصلة مع إطلاع المعنيين على أخر الدراسات السيكولوجية وربطها بالواقع في كل حالاته ، أملاً في التخفيف من تكرار حدوث الطفرات السلوكية التي قد تصيب الفرد في أي زمان ومكان.

المراجع :
- أتوكلينبرغ ( 1956 ): علم النفس الاجتماعي . ترجمة حافظ الجمالي ، جامعة دمشق.
- دافيدوف ، ليندا . ل( 1992 ) مدخل علم النفس . ترجمة سيد طواب وآخرون ، الطبعة العربية الثالثة ، الدار الدولية للنشر والتوزيع ، القاهرة.
- ريتشارد ،لازاروس . س ( 1989 ) : الشخصية: ترجمة سيد محمد غنيم ، الطبعة الثالثة ، دار الشروق ، القاهرة.
- لطفي ، فطيم( 1994 ): العلاج النفسي الجماعي . مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة.
- مليكة، لويس كامل ( 1970): سيكولوجيا الجماعات والقيادة . الطبعة الثالثة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة.
- مورتون ، سكاترمان : «فرويد » مجلة الثقافة العالمية العدد ( 54 ) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت .

0 comments: