Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

حكايات عن الرحلات ، متاحف غريبة ومثيرة في مدن العالم ....الأدب العلمي العدد الواحد والثلاثون


محمد مروان مراد

تزدحم عواصم العالم بالمتاحف والمراكز الثقافية من كل نوع ، وكلما رغب المسؤولون عن مدينة ما تقديمها كمركز حضاري ، وملتقى ثقافي سعوا إلى افتتاح متحف جديد ....
وتختلف أهداف هذه المتاحف وسماتها المميزة، ففيها التاريخية التي تحتضن روائع الآثار الخالدة الباقية عن الأجداد والآباء، وفيها الاجتماعية التي تقدّم صوراً عن النشاط الإنساني، وأخرى الثقافية التي تعرض للنهضة الفكرية والفنية ورجالها المبدعين، وبالطبع فإنّ عشرات المتاحف في مدن العالم تندرج تحت هذه الفئات وغيرها، لكن اللافت للانتباه هي تلك «الصرعة » الجديدة التي ظهرت منذ سنوات قريبة، وطلعت علينا الأخبار بإنشاء متاحف غريبة فيها ما هو جدير بأهميته، وفيها ما يمثل نوعاً من الطرافة والغرابة، حتى ليكاد يخيّل إلينا بأنّ كل شيء من حولنا ومهما تكن قيمته قابل لأن يُصبح خالداً في متحف خاص يُقام باسمه.
مَن يُصدِّق؟ في ركن صغير من أركان المعهد القومي الهندي للأمراض المُعدية، تُحفظ مئة ألف بعوضة، وفأر حامل للطاعون، وديدان من غينيا وطيور برية مصابة بالتهاب الدماغ الياباني، ويُعرف المكان باسم «متحف البعوض » ويشتمل على أقدم وأكبر مجموعة من نوعها في جنوب شرقي آسيا، وقد تأسّس رسمياً في عام 1938 ، ولا يزال يُستخدم في مكافحة الأمراض القاتلة.
ويأتي العلماء والباحثون من مختلف أرجاء العالم إلى المكان لدراسة الحشرات المسجّلة بشكل منظّم في عُلَب من خشب بأغطية زجاجية، والتي كان أغلبها قد تسبّب في إزهاق أرواح الملايين من الناس في جنوب وجنوب شرق آسيا.. وعلى الرغم من أنّ كثيراً من الدول تمتلك مجموعات مماثلة لكن (دلهي) تمتلك بعضاً من أقدم النماذج عدا متحف التاريخ الطبيعي في لندن..
يعبّر «كيه ساكسينا » مدير متحف البعوض عن أهمية المتحف بقوله: (نحن فخورون جداً بحشراتنا.. إنها منجم ذهب للباحثين يفدون إليه من كل أرجاء الدنيا.).
متحف مصاصو دماء البشر :
إذا كان للبعوض مصاص دم الإنسان متحف خاص.. فإنّ لمصّاصي دم الإنسان من البشر متحفاً أيضاً لكنه بالطبع أكثر إثارة وأشد رُعباً، في العاصمة الفرنسية «باريس » المزدحمة بمئات المتاحف المشيّدة لعرض كل نماذج الفنون التقليدية والمعاصرة والفولكلور، والمهن ووسائط النقل، والطبخ والتطريز وأنشطة الإنسان التجارية والزراعية والصناعة، وبإمكاننا القول إنّ ثمّة متحفاً لكل شيء في الحياة تقريباً.. إلا أنّ أعجب هذه المتاحف هو المخصّص لظاهرة خيالية: «مصّاصو دماء البشر .»
يقع المتحف في ضاحية «لي ليلا » قرب بوابة باريس الشرقية، وقام صاحبه «جاك سيرجان » بتأسيسه وافتتاحه عام 2005 ، بحضور جمهور حاشد وشخصيات شهيرة.
وكان الحديث عن ظاهرة «مصّاصي الدماء » قد بدأ مع ظهور رواية «دراكولا » أشهر مصّاصي الدماء في التاريخ، والتي استوحاها مؤلّفها الايرلندي: (برام سنوكر) من شخصية حقيقية للأمير الروماني الدموي «فلاد الرابع » الملقّب ب «دراكولا » أي: ابن التنّين. والذي عاش في القرن الخامس عشر، وكان حاكماً على المقاطعات الرومانية، وخاضعاً لسلطان العثمانيين، ثمّ تربّع على العرش الروماني عام 1455 ، إثر وفاة أبيه الملقّب «فلاد الشيطان » فاستخدم الملك أوضاع الاحتلال لممارسة البطش وإرواء تعطّشه للدم باسم محاربة المسلمين والثأر للمسيحية المُهانة، لكنه قتل من مواطنيه أكثر من سلطات الاحتلال العثمانية حتى قدّر عدد ضحاياه بمئة ألف نسمة.. ويُحكى أنه دعا يوماً فقراء مقاطعته إلى مأدبة فاخرة في قصره، وبعدما أكلوا وشبعوا سألهم: والآن ماذا تتمنون؟ فأجابوا: أن تنتهي إلى الأبد أوضاعنا البائسة.. فما كان منه إلا أن أمر بإغلاق الأبواب فوراً، وصبّ الزيت على المدعوّين جميعاً ليحترقوا عن بكرة أبيهم، ووقف عن بُعد يتأمّل جثثهم المحترقة ويصرخ مقهقهاً: ها أنذا قد لبيتكم وأنهيت بؤسكم كما تمنيتم .
كانت تلك بداية الظاهرة التي ما لبثت أن امتدّت إلى الدول الأوربية، فظهر مصطلح فامبير »Vampire« أي «مصّاص الدماء » في هنغاريا والنمسا وفرنسا وعديد من الدول الأخرى.

الخفافيش ومصاصو الدماء :
مؤسس متحف مصّاصي الدماء: «جاك سيرجان » جعل منزله الشخصي مقرّاً للمتحف وجمع فيه مجموعات فريدة لا تخطر في البال عن كل ماله صلة بالموضوع: الكتب العلمية وتلك الخرافية وكتب الشعوذة والسحر، والروائية التي تقدّم مواضيعها قصصاً تبعث القشعريرة، عن أنياب طويلة تُغرز في رقاب الضحايا، وهناك وثائق ومخطوطات قديمة ونادرة وكلها عن تاريخ مصاصي الدماء، وحتى محاضر شرطة فيها شكاوى المزارعين ضدهم، وليس من فيلم ظهر عن تاريخ مصّاصي الدماء إلا وفي المتحف نسخة منه إضافة إلى المُلصقات المُرعبة الخاصة بتلك الأفلام...
وفي كثير من الأركان وطاويط محنّطة، تُشير إلى التشابه بين خفافيش الليل ومصاصي الدماء، ويتوقف الزوّار أمام آلات مثيرة للرعب بينها الأوتاد الخشبية التي تُغرس في قلوب الضحايا، والمطارق التي تدقها.. إضافة إلى أواني مصّاصي الدماء، كالأقداح المستخدمة في شرب الدم، وقطع أثاث وهياكل عظمية وجماجم، ورؤوس ذئاب سوداء مكشّرة عن أنيابها.. والأكثر إدهاشاً في هذه المجموعات تلك المنحوتات والمزاريب المنحوتة على شكل وجوه يتدفق ماء أحمر من أفواهها.. وقد أمضى «سيرجان » سنوات يجمع كل هذه المقتنيات المرعبة من أنحاء أوروبا خاصة ومن العالم بشكل عام..

احجز بطاقتك :
والآن إذا أردت أن تقوم بزيارة لذلك المتحف المخيف، فلا بدّ لك أن تحجز بطاقتك سلفاً والحصول على موعد قد يتأخّر أياماً، ولن تقتصر زيارتك للمتحف على مجرّد التنقّل بين معروضاته والتأمّل في هذه المقتنيات الغريبة، بل تشمل بطاقتك التي اشتريتها حضورك ندوة خاصة عن الموضوع لتستمع إلى تاريخ الظاهرة من فم صاحب المتحف الذي يعدّ مرجعاً موسوعياً مختصّاً بتاريخ مصاصي الدماء..

متحف للقهوة والشاي أيضاً :
بعيداً عن الرعب والدموية، تتّجه الأنظار إلى «لندن » المشهورة بمتاحفها الكثيرة، بدءاً من «المتحف البريطاني » الغني بروائع الآثار الإنكليزية والعالمية مروراً بمتحف «الشمع » الذي يجمع مشاهير العالم تحت سقف واحد..
على ضفة نهر «التايمز » في قلب العاصمة البريطانية، وفي منطقة «بانك ساند » يقع متحف «براما » للشاي والقهوة، في مقر كان مستخدماً لاستقبال شحنات الشاي والقهوة القادمة من كينيا والصين والهند واليابان، لحساب شركة «شرق الهند »  .
أخذ المتحف اسمه من اسم مؤسّسه «ادوار براما » الذي عمل لأكثر من نصف قرن متنقّلاً بين الدول المُنتجة للسلعتين الشهيرتين: الشاي والقهوة.

رحلة تاريخية في جلسة حميمية :
يثيرك وأنت تهمّ بدخول المتحف الطابع غير الرسمي، والأجواء الهادئة، حتى يخيل لك بأنّك تدخل إلى مقهى بريطاني تقليدي، طاولات مستديرة صغيرة، مغطّاة بشراشف مطرّزة معدّة لاستقبال الزوّار، وحين تجلس منتظراً طلبك من الشاي، لا بدّ وأن تجيل نظرتك في الصور التاريخية المعلّقة على جدران المقهى - المتحف: إعلانات من شركات إنكليزية ولّى زمنها، وصور لمجموعات من الإنكليز بملابسهم التقليدية المُحافظة وهم يتناولون الشاي أيام القرن الثامن عشر.. يتصوّر زائر المتحف بأنّ جولته فيه ستكون سريعة ولا تحتاج وقتاً طويلاً، لكنه يكتشف من البداية أنه أمام شريط طويل يحكي تاريخ الشاي والقهوة من خلال قصص في آنٍ معاً: تتناول الأولى منها: علاقة الشعب البريطاني بشُرب الشاي في بداية القرن السابع عشر وتطورها بحيث صار الإنكليز معروفين بتناول الشاي خصوصاً بعد الظهر لدى اجتماع العوائل والأصدقاء عند عصر كل يوم في جلسات حميمية دافئة. وتتناول القصة الثانية صناعة الشاي وتطورها، وجُسدت الحكاية بعرض أنواع مختلفة من أباريق الشاي والسماورات وأكواب الشاي، ويستطيع الزائر أن يتذوّق أصنافاً من الشاي المستورد من أسام وسيلان، ويتعرّف إلى أوراقها المتنوّعة...
وتستعرض القصة الثالثة رحلة القهوة التي انطلقت من اليمن والحبشة، لتمتد عن طريق تركيا إلى فيينا ومنها إلى أرجاء أوروبا، ويعرض المتحف هنا أنواعاً من الأجهزة التي استُخدمت في صناعة القهوة وإعدادها بذوق وفن ومهارة، مع التأكيد على أهمية اختيار نوع القهوة ونقائها وعدم خلطها مع غيرها من المشروبات كما تفعل المقاهي الحديثة التي تقدّم «الكابتشينو » الخليط الهجين من القهوة والحليب.
تحسّ فعلاً بأنك في بيت أحد الأصدقاء، حين تدنو منك النادلة الحسناء، لتضع على الطاولة صينية أنيقة فيها إبريق من البورسلان النفيس يحتوي على أوراق الشاي بدلاً من الأكياس المتداولة بين الناس في أيامنا..
ولما عرف «ادوار براما » عن اهتمامي بتاريخ المتحف، انضمّ إليّ ليحدّثني عن «تراث شرب الشاي بطقوسه الخاصة، من غلي الماء وتخمير الشاي وانتظاره لفترة حتى يُصبح جاهزاً للشرب، خطر لي أنّ هذه الطقوس لاتزال ممارسة في البيوت العربية، وأكّد لي «براما » أنّ هذه الطقوس تستلزم صبراً واسترخاء ..»
سألتُ نفسي وأنا أهمّ بالخروج من بوابة المتحف: هل نحن حقاً نشرب الشاي والقهوة حسب الأصول؟ ورحتُ أستعيد طعم فنجان قهوة متحف «بارما » على شفتيّ..
متحف أعواد الثقاب :
تقودنا الجولة في متاحف العالم إلى مدينة «يونشوبنغ » السويدية لنتعرّف إلى متحف فريد في نوعه، «متحف أعواد الثقاب » ... تقع «يونشوبنغ » في منطقة(سمو لاند) على مبعدة 326 كم من العاصمة «ستوكهولم » وتتّصف المدينة ومحيطها بمناظر طبيعية خلاّبة بسبب قربها من الطرف الجنوبي لثاني أكبر بحيرة مياه عذبة في السويد، بحيرة «فتن »، وتوجد في المنطقة عدة متاحف بينها: «متحف الراديو » ومتحف الشاعر السويدي «فيكتور ردبري » وعدد من بيوت الثقافة ومعارض الفن التشكيلي.
قدّم لنا الدليل قُبيل طوافنا بأجنحة المتحف نبذة عن بداية ابتكار أعواد الثقاب، لقد ظهر أوّل أنواع «الثقاب الأمين » عام 1894 ، على أساس براءة اختراع سجلها الكيماوي السويدي «غوستاف إيريك باش » الذي استبدل الفوسفور الأصفر المستخدم في صناعة الثقاب بالفوسفور الأحمر الأكثر أماناً، وتبعه «يوهان ادفارد لندستروم » في عام 1855 ، فقام بفصل كلورات البوتاسيوم التي وُضعت على رأس العود عن الفوسفور الأحمر الذي طُلي به جانب العلبة، ونتج عن ذلك أنّ الثقاب صار لا يشتعل إلا عندما يحتك بالجدار الخارجي للعلبة، حيث تتفاعل مكوناته مع مكونات العجينة المثبتة على رأس العود. بهذا الابتكار غدت «السويد » أوّل دولة في إنتاج الثقاب الآمن في العالم، وتعزَّز ذلك الموقع مع حصول المهندس السويدي «الكسندر لاغرمان»( 1836  - 1904 ) على براءة تصميم أول ماكينة ذاتية الحركة لصُنع الثقاب، والذي أدّى إلى تحوّل الإنتاج اليدوي إلى الإنتاج الآلي، وتبع ذلك التوسّع في الإنتاج، وخطا «لاغرمان» خطوة تالية بتصميم أول وحدة لإنتاج الثقاب الأمين، بطريقة الإتناج الواسع عام 1864 ، ولكن تشغيل الماكينة في أشهر معمل سويدي للثقاب بمدينة «يونشوبنغ » لم يبدأ إلى عام 1892 ، وكانت هذه الماكينة قادرة على إنتاج 40 ألف علبة ثقاب في اليوم الواحد.
كان معمل «يونشوبنغ » قد تأسس عام 1845 على يد الأخوين «كارل فرانس لندستروم » و «يوهان ادفارد لندستروم » بثلاثين عاملاً، وما لبثت الورشة أن ضاقت بالعمال والآلات، فجرى تشييد بناء خشبي من طابقين عام 1848 وهو المبنى الذي تحوّل إلى متحف عام 1948 .
في عام 1855 حاز الأخوان «لندستروم » الجائزة الفضية في معرض باريس الدولي، وجلب هذا الفوز للأخوين شهرة واسعة نما معها الطلب على الثقاب السويدي الأمين في أوروبا وأنحاء العالم.. وما هي غير سنوات حتى تضاعف تصدير الثقاب من السويد لأكثر من عشرين مرة، وغدا من أهم صادرات البلاد، وظهر العديد من المصانع في مدن السويد، حيث بلغ العدد نحو 155 معملاً أواخر القرن التاسع عشر.

معالم الدنيا من أعواد الثقاب :
تقدمنا الدليل يطوف بنا في قاعات المتحف، ويعرّفنا على تاريخ ومراحل إنتاج الثقاب، وقد احتلّت ماكينة «لاغرمان » أكبر قاعة فيه، وتعرض في القاعات الأخرى لوحات تجسّد حياة العمال ومراحل الصناعة اليدوية، وبخاصة حين كانت مراحل كثيرة من العمل تُنجز في البيوت كصنع العلب. ويمكن رؤية مئات من العُلب بمختلف الرسوم واللغات في الطابق العلوي من المتحف، ومن بينها عُلب ثقاب بلغات العالم وبينها اللغة العربية، وهنالك قاعة مخصّصة لعرض أشياء مصنوعة من أعواد الثقاب كالمعالم الشهيرة في المُدن، أو لوحات الفنانين المشاهير، ويذكر في هذا المجال أنّ عدداً كبيراً من الرسّامين أنتجوا ما يقارب 14 ألف رسم لأغلفة عُلب الثقاب على مر السنين.
يُخبرنا الدليل أنّ أهم ماركات عيدان الثقاب العالمية تستمدّ شهرتها من معمل «يونشوبنغ » ومن أبرزها ماركة «النجمات الثلاث » التي راجت في دول آسيا وفي الأقطار العربية، وكانت قد ظهرت عام 1885 ، وغدت رمزاً لثقاب «يونشوبنغ » ومن الطريف جداً أنّ عديداً من الدول حاولت تقليد هذا المنتج، وبلغ الأمر حدّاً أن اليابانيين قاموا بتغيير اسم إحدى الجُزُر اليابانية إلى «يونشوبنغ » ليسجّلوا على إنتاجهم «صُنع في يونشوبنغ » لكن إنتاجهم المزوّر ما لبث أن انكشف بسبب فشلهم في اقتباس النصوص المدوّنة باللغة السويدية على العُلَب بشكل صحيح..
يتوافد الزوّار من أرجاء العالم إلى مدينة «يونشوبنغ » ليطوفوا في قاعات متحف الثقاب، ثمّ يقوموا بصناعة عُلَب ثقاب خاصة بهم، وتُحف ومجسّمات فنية من عيدان الثقاب..
إنها متاحف غريبة، تتناثر في مدن العالم، لتقدّم لزوّارها الإثارة والطرافة والمعلومة الجديدة..
وسنقدّم في موضوعنا القادم حكايات متاحف أشد غرابة وأكثر إثارة.

المراجع :
- من دفتر مذكراتي - جولات سياحية للكاتب.
- غرائب المتاحف في العالم - د. عبد الرحمن الدوسري - دار طويق للنشر - الرياض 2005 .
- موسوعة غرائب العالم - إبراهيم يسري - المكتبة العربية - القاهرة 1985 .




0 comments: