Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

الخروج من الكهف (قصة من الخيال العلمي) ....الأدب العلمي العدد الواحد والثلاثون


صلاح معاطي

-كما ترون أمامكم ... تجويف المخ في الجانب الأيسر يبدو غائراً أكثر من اللازم بالمقارنة بالجانب الأيمن... هذا دليل على أنهم كانوا يستعملون أيديهم اليمنى مثلنا ...
رفع عالم الآثار الشهير الدكتور «مختار فوزي » يده اليمنى وهي تحمل جمجمة لإحدى الحفائر التي عثر عليها حديثاً ، وأردف محدثاً أحد تلاميذه :
- من فضلك يا أستاذ سعيد قرب الكشاف قليلاً .. انظروا . في هذا الجانب يوجد شق طولي ، هذا الشق الذي أسفل الجمجمة .
يبدو واضحاً أنه من أثر ضربة شديدة على مؤخرة الرأس بآلة حادة . من الواضح أنهم كانوا قد بدءوا يستعملون الأدوات في تلك الفترة ..
رد أحد الواقفين :
- في تقديري يا دكتور مختار أن هذا الكشف يرجع إلى ما قبل الميلاد بحوالي عشرين ألف سنة ..
ابتسم الدكتور مختار وهو يقول مصححاً معلومة محدثه :
- عد إلى الوراء خمسة عشر ألفاً أخرى.. أي منذ ما يقرب من خمسة وثلاثين ألف سنة.. فهذه الجمجمة وغيرها من الحفائر التي عثرنا عليها في هذا الكهف تنتمي إلى نوع من المخلوقات قريبي الشبه بالإنسان يعرف بالإنسان الكروماني .. عاش في تلك الفترة قبل حلول العصر الجليدي الرابع .. وكان طويل القامة بدرجة كبيرة …
قاطعه زميله الدكتور شفيق مؤكداً :
- وأعتقد أنهم كانوا على درجة كبيرة من الذكاء ، فهذا يبدو من نوعية الأدوات الحجرية التي خلفوها وراءهم في هذا الكهف..
صاح الدكتور إسماعيل وهو يعبث ببعض الهياكل الصغيرة المتحجرة :
- وما سر وجود هذه المحارات هنا يا دكتور مختار ؟
أجاب مختار وهو يتناول الكشاف من يد حسين ويوجهه إلى حيث أشار إسماعيل :
- يبدو يا إسماعيل أن هذا الكهف كان يوماً ما قاعا لأحد البحار القديمة إلى أن انحسرت المياه وزادت رقعة اليابسة ..
اقتربت فتاة من دائرة الضوء ، وقفت بجانب مختار وقالت :
- ياله من كشف عظيم لم يسبق له مثيل .. ترى هل هذه هي الحلقة المفقودة التي أشار إليها دارون في كتابه «أصل الأنواع ؟»
قالت هذا وهي تخرج بدورها كشافاً صغيراً من حقيبتها ، وابتعدت عن المجموعة في محاولة لسبر غور هذا الكهف المظلم ولو لبضع خطوات قليلة .. بينما مازال الدكتور مختار يتحدث عن طبيعة ذلك الإنسان الذي عاش على هذه الأرض منذ خمسة وثلاثين ألف عام ..
- ربما تدهشون لو عرفتم أن أولى مراحل الفن ظهرت مع ظهور هذا الإنسان الكروماني. تأملوا الجدران .. ألم تسترع انتباهكم الحفر والتعاريج التي نقشت عليها .. إنها بلا شك نوع من الرسم .. فقد كانوا يدونون أحداثهم وأخبارهم ومشاكلهم وصراعاتهم من أجل البقاء على هذه الجدران.. فهذا الشكل قريب الشبه من الماموث الذي كان منتشراً في ذلك الزمان السحيق .. وهذا رسم آخر يبين رجلاً يحاول إحداث شرارة من طرق حجرين من الصوان ببعضهما .. مما يدل على أن النار اكتشفت قبل ذلك التاريخ .. يقطع حديث الدكتور مختار فجأة صرخات متلاحقة داخل الكهف، وجسم يرتطم بالأرض
- هالة .. هذا صوتها ..
انطلق الجميع نحو مصدر الصوت ، وأضيئت الكشافات في محاولة لهتك الظلام الكثيف الذي يطبق على المكان ، وكأن الزمن ألقى بأستاره المظلمة داخل الكهف ونسيها منذ ملايين السنين .. ولم تستطع الكشافات أن تضئ سوى خطوات قليلة ، وأصدر الدكتور مختار أوامره :
- لا يبتعد أحد حتى لا يضل الطريق .. سنبحث عن هالة معا ..
ترى ما الذي حدث لهالة ؟ .. سؤال ظل يتردد في رؤوسهم أثناء قيامهم بعملية البحث
- ربما سقط حجر فوق رأسها أفقدها الوعي ..
قال الدكتور مختار هذا وهو يلوح بكشافه يميناً ويساراً ، بينما صاح الدكتور شفيق وقد تردد صدى صوته في المكان :
- أليست لهذا الكهف نهاية ؟
أجابه مختار دون أن ينظر إليه :
- بعض الكهوف تمتد لأكثر من مائتي كيلومتر داخل السلاسل الجبلية ..
صاح سعيد فجأة :
- انظروا .. توجد هنا بقعة دم ..
التفت الجميع إلى حيث أشار سعيد .. كانت توجد بالفعل بقعة دم حديثة مازالت دافئة ، تبعتها قطرات صغيرة لمسافة متر واحد تقريباً ، واختفت القطرات بعد ذلك ..
توقف مختار عن السير وهو يقول :
- من الواضح أن هالة تواجه خطراً حقيقياً الآن .. هذه القطرات تبين أنها تحركت في هذا الاتجاه ، ولو كانت تقوى على السير فمن الطبيعي أن تسير عائدة إلينا ..
سأله شفيق :
- أتعني أن تكون هالة قد اختطفت ؟
- هذا احتمال .. فكثير من هذه الكهوف تكون مأوى للمجرمين والخارجين عن القانون..
- لو كان هذا صحيحاً لتركها مكانها بدلاً من أن يحتمل مشقة حملها إلى داخل الكهف والسير بها مسافة طويلة ..
بدءوا يمشون حثيثاً معتمدين على الجدران شاهرين المديات التي يستعملونها في كشط الأحجار متأهبين لأي مواجهة أو مباغتة من مجهول قد يبرز لهم بين لحظة وأخرى من جوف الظلام .. تعترضهم في بعض الأحيان قطع ضخمة من الأحجار أو تصطدم بأقدامهم حفرية كستها الأحجار الجيرية أو الكلس ، فغيرت معالمها ، ولم يبد منها غير شيء بارز .. قد يكون عظمة أنف أو فكاً سفلياً لجمجمة ..
ظلوا سائرين داخل الكهف المظلم الملتوي وكأنهم يمشون داخل بطن ثعبان ضخم.. يضيق بهم حيناً ، فتضيق تبعا لذلك صدورهم وتتعالى دقات قلوبهم وتضطرب أنفاسهم ، فيضطرون إلى ضغط أجسامهم وخفض رؤوسهم .. ويتسع حيناً آخر فيشعرون أنهم خرجوا من عالم إلى آخر ..
لا يرون أمامهم غير الظلام الدامس الذي كاد يغشي أبصارهم .. زكمت أنوفهم روائح كريهة انبعثت بالتأكيد من جثث الحيوانات النافقة التي كانوا يصطدمون بها ويطئونها بأقدامهم أثناء اندفاعهم داخل الكهف بلا إرادة ، وكأن مغناطيساً قوياً آخذهم إلى حيث لا يدرون رغما عنهم .. يتوقف الدكتور مختار فجأة وهو يتساءل :
- أمعقول أن يكون مختطف هالة قد حملها هذه المسافة الطويلة دون أن يكل.
أجابه شفيق :
- لا تنس يا دكتور أن أصحاب الكهوف يعرفونها جيداً وسلكوا طرقها مرات عديدة..
علق سعيد :
- ربما يكون قد انزوى في ركن من الكهف ولم نستطع رؤيته في الظلام ..
أجابه إسماعيل :
- لو كان هذا صحيحاً فبالتأكيد ستفضحه أنفاسه اللاهثة ..
صاح شفيق :
- معظم الكهوف تتفرع إلى أكثر من طريق..
عندئذ صرخ مختار :
- انظروا .. هناك بالفعل طريق آخر في هذا الجانب ..
وأشار بكشافه ليبدو بالفعل أمامهم طريقين تفرعا على شكل دلتا . وأصدر مختار أوامره
- سوف نقسم أنفسنا إلى فريقين . كل فريق يسلك طريقاً على أن نلتقي عند هذه النقطة بعد ربع ساعة .. هيا معي يا سعيد ..
انطلق كل فريق في طريق وهم يصيحون منادين على هالة ، فيتردد صدى أصواتهم داخل الكهف الغارق في الظلمة والسكون ...
أما مختار وسعيد فظلا سائرين حتى أنهكهما التعب وحل بهما الملل واليأس من العثور على هالة ، فقررا العودة ..
قبل أن يستديرا عائدين شق السكون المخيم على المكان انفجار عنيف زلزل أرجاء الكهف ، وانهالت عليهما قطع من الحجارة أتت من كل اتجاه ، وكأن الكهف قد هبط فوقهما .. أسرع كل منهما في اتجاه اتقاء من سيل الأحجار المتدفقة ، فاندفع سعيد لائذاً بالفرار ولم يبال بالظلام الدامس ولا بجثث الحيوانات التي داستها قدماه أثناء اندفاعه، ولا بالدماء التي سالت من رأسه بغزارة ..
فجأة سمع خلفه دوياً عنيفاً وأطبق الكهف على من فيه .. عندما وصل عند ملتقى الطريقين وجد إسماعيل وشفيق يسألانه في ذعر وقلق :
- ماذا حدث ؟
- أين الدكتور مختار ؟
ينظر لهما سعيد بعينين تملؤها الدموع ، ثم يجهش بالبكاء ..
*******
انكمش في ركن من الكهف مدهوشاً ، يرقب ما يحدث في الظلام بوجل وذعر لا يسعفه كشافه الصغير على التحقق مما يدور حوله، غير قطع ضخمة تتساقط من حين لآخر محدثة دوياً هائلاً يتبعها سيل من الأحجار، ورائحة الغبار المختلطة بعفن الزمن والحيوانات النافقة .. ثم سكن كل شيء ، وأحاطه الصمت مرة أخرى ..
بحذر شديد بدأ يتحرك عائداً ليلحق بزملائه الذين ينتظرونه في الخارج .. اعترضه حائل كؤود وقف متحديا كالخطر..
أضاء كشافه .. حركه يميناً ويساراً إلى أعلى وإلى أسفل بحركات جنونية .. دنت منه صرخة حسرة .. فقد تكون جدار هائل من قطع الحجارة في مكان الانهيار ، أغلق عليه الكهف إلى الأبد وعزله عن العالم الخارجي..
راح ينادي بأعلى صوته وهو يدق على الجدار الحجري بيدين كليلتين :
- سعيد . شفيق . إسماعيل . . يعود إليه صدى الصوت خاوياً موحشاً مخيفاً ينذره بدنو أجله مختنقا داخل هذا الكهف اللعين ليتحول إلى رمة أو هيكل متحجر .. انهار على الأرض يائسا . هل قدر له أن يموت ميتة السحالي والجرذان المتعفنة ؟ هل حكم عليه أن يشاهد أنفاسه الأخيرة وهي تخرج نفسا نفسا ؟ ..
أجهش بالبكاء وقد أدرك أن الحياة توقفت به عند هذا الحد ..
تذكر أن لتلك الكهوف أكثر من مخرج .. لم يفقد الأمل .. انطلق يعدو داخل الكهف باحثا عن الحياة التي انزوت من أمام عينيه فجأة .. يشق ستار الظلام الكثيف بكشافه الكسول الضعيف .. يقطع السكون المزعج بدقات قلبه المرتجفة التي تؤكد له أنه مازال على قيد الحياة .. لم يحسب كم مر عليه من زمن وهو يجري داخل سجنه المظلم .. فقد الإحساس بالزمن .. أصبحت تحكمه قوانين صارمة سارية داخل الكهف منذ الأزل .. عاوده اليأس من جديد .. بدا له الكهف بلا نهاية مثله مثل الكون السحيق .. رائحة الجثث المتعفنة تصيبه بالغثيان .. راح يصيح بلا صوت .. يبكي بلا دموع خفتت دقات قلبه.. يتنفس بصعوبة .. شبح الموت يجثم على صدره .. والنهاية تدق بيديها الثقيلتين على جدران الكهف ..
بينما هو بين الموت والحياة لاح شيء من بعيد ، شيء يومض ومضات خافتة تروح وتجئ .. انتبه .. ردت إليه الروح من جديد بعد أن صارت في حلقه .. لا لن يموت . أسرع الخطى نحو مصدر الضوء تلاحقه أفكار متباينة مرقت برأسه أثناء اندفاعه .. لم يبال بجثث الحيوانات التي داستها قدماه .. لم يفكر في الخطر المحدق له من كل جانب في ذنب عقرب يتحين الفرصة لكي يلدغ تلك القدم العمياء ، أو بين أنياب حية تختبئ في جب وهي تتساءل .. من يكون هذا المغوار الذي أتته الشجاعة لكي يقتحم مملكتها ويقلقها من ثباتها ؟ ..
لم يصدق مختار نفسه عندما شاهد عن كثب ضوء الشمس وهي تنشر أشعتها على الوجود ، شعر بنسمات رقيقة من هواء الدنيا تدغدغ وجهه . زال عنه الشعور بالانقباض بعد أن ظل ساعات طوال - لا يعرف عددها - يستنشق رائحة الجثث المتعفنة حتى كاد يختنق .. وقف على فوهة الكهف التي بدت له كفم وحش جائع يبحث عن فريسة . أخذ نفساً عميقا من الهواء النقي ملأ به رئتيه .. تلفت حوله وارتسمت على وجهه علامات الدهشة.. ياله من واد فسيح تحيطه الجبال من كل جانب حتى عزلته تماماً عن العالم ..
- أنا أول إنسان يخطو بقدميه على أرض هذا الوادي ..
هكذا حدث نفسه بصوت مسموع لكي يؤنس وحشته وأضاف :
- كيف يمكنني العودة مرة أخرى ؟
قبل أن يجد إجابة على تساؤلاته انتفض في مكانه .. خيل إليه أن رأسا أطل من إحدى المغارات واختفى .. عاد يطمئن نفسه بأن ما رآه من أهوال داخل الكهف جعله يتخيل أشياء غريبة .. لا .. لم يخيل له هذه المرة .. هناك بالفعل شيء يتحرك داخل هذه المغارة .. راح مختار يقفز الصخور هابطا حتى استقر على سهل الوادي في البقعة النائية التي انحصرت بين ثلاثة جبال شاهقة .. تذكر مسدسه النائم في جيبه .. أخرجه أطلق عدة أعيرة شقت السكون الذي يلف المكان . وأظلمت الدنيا .. راحت تلاحقه قطع من الحجارة انطلقت من كل مكان كادت تصيبه لولا أنه احتمى داخل أحد التجاويف الصخرية.. لم يجد مختار بدا من إطلاق رصاصة أخرى في الهواء - على سبيل التهويش
- ولكن الرصاصة أخطأت هدفها وهوى على أثرها جسم ارتطم بالأرض مضرجا في دمائه .. وامتلأ المكان بصرخات انبعثت من كل جانب .. ما هي إلا لحظات حتى خرجوا من أكنانهم عراة حفاة ، إلا من قطع صغيرة من جلود الحيوانات تخفي عوراتهم .. أجساد ماردة تتعدى المترين طولا.. تتدلى شعورها خلف ظهورها فلا تستطيع أن تفرق بين الذكر والأنثى ، إلا من قطعتي الفراء اللتين تغطيان الثديين .. عينان واسعتان تطل منهما الشراسة والوحشية .. أنوف بارزة في تحد وإصرار.
راحوا يقفزون فوق الصخور والنتوءات، وفي أيديهم قطع من الظران وهراوات حجرية .. وفي ثوان معدودة أحاطوا به .. خرجوا بالعشرات والشرر يتطاير من عيونهم والهراوات مرفوعة في الهواء تريد أن تنال منه، بينما هو لا يزال لائذاً بمخبئه الصخري ينظر إلى هذا المشهد العجيب بقلب مرتجف ، المسدس يرتعش في يده .. لا يدري ماذا يفعل؟
لو مد أحدهم إصبعه لأخرجه من مكمنه، بل إن طرف الهراوة الحجرية لو لكزه بها واحد منهم لقضى عليه في الحال .. همس مختار بنبرات مهتزة :
- كرومانيون .. جباههم العريضة المفلطحة.. أنوفهم البارزة الطويلة .. عظام الفكين تحتل مساحة كبيرة من الرقبة .. أطوالهم الفارعة .. أ معقول أن يكون أحد منهم ما زال على قيد الحياة إلى الآن ..
لم يشعر مختار بيده المرتعشة وهي تضغط على الزناد لتنطلق رصاصة مدوية تستقر وسط كومة من الحشائش الجافة وتضمر فيها النار ، وسرعان ما ارتفعت ألسنتها المتوهجة إلى عنان السماء ..
ما أن رأى الكرومانيون ذلك حتى راحوا يقفزون ويصرخون ويجرون هنا وهناك مالئين الوادي ضجيجاً وصراخاً وهم يرفعون أيديهم إلى أعلى ويرددون كلمات غير مفهومة.. وامتدت يد جذبت الدكتور مختار من مخبئه فأدرك أنه هالك لا محالة.. وفوجئ بهم يجلسونه فوق ربوة عالية وراحوا يرفعون أيديهم في خشوع وهم يصدرون همهمات غريبة وقد تعلقت عيونهم به واشرأبت أعناقهم نحوه ، ولا يدري هو ما الذي سيفعلونه معه هؤلاء القوم الذين ينحدرون من جنس بائد ..
بعد قليل .. لمح فتاة فارعة الطول تتجه نحوه ، يلمع جسدها النحاسي العاري تحت أشعة الشمس الذهبية.. شعرها الأسود الفاحم ينسدل في انسيابية حتى كاد يناطح ردفيها المتوثبتين .. لم يفلح فراء الأرنب البري أن يخفي ثدييها الناهدين اللتين ينبضان أنوثة وحياة .. بالرغم من ملامح الهمجية التي تبدو على وجهها الكروماني ، فإن جمالاً طاغياً راح يطل من عينيها الدعجاوين ، وقد تشربت وجنتاها بحمرة خفيفة..
همس الدكتور مختار وهو ينظر إليها :
- جميلة .. رغم كل شيء ..
ابتسم لها ابتسامة خفيفة ، فقطبت ما بين حاجبيها الكثيفين النافرين وهي تحدجه بعينيها .. عاد يبتسم وقد اتسعت ابتسامته فبادلته بابتسامة كأنها أول مرة تبتسم في حياتها .. وكانت الابتسامة هي اللغة الأولى التي استعملها مختار للتفاهم مع هؤلاء الكرومانيين ..
شعب بدائي مسالم .. بدا ذلك من خلال الرسومات والنقوش التي فوق الجدران والتي تصور الحياة التي يعيشونها داخل الكهوف .. فهذا رسم لرجل يعدو خلف أرنب بري وفي يده قطعة من الظران ، وهناك رسم لرجل يحصد بعض الحشائش الجبلية ، ورسم ثالث لرجل يحمل على ظهره كمية من الحشائش الجافة ..
تعجب مختار من الألوان الطبيعية الخلابة التي تلونت بها هذه الرسوم ، ولم تطل دهشته فقد ظهر رجال يحملون عدداً من الأواني الفخارية تحوي أصباغاً ودهانات مختلفة الألوان .. مضى الرجل يرسم على الجدران وصخور الجبال قصة الإنسان الغريب الذي ظهر لهم فجأة وفي يده آلة عجيبة تخرج من داخلها شيئاً يضمر النيران في الحشائش الجافة ..
كان القوم مازالوا يرقصون ويصيحون حول النار ابتهاجاً بها وتقديساً لها ، بينما مختار يحاول أن يجمع شتات فكره لكي يجد وسيلة يستطيع بها التعامل مع هؤلاء البدائيين والتفاهم معهم .. أمسك عوداً يابساً غمس طرفه في إحدى الأواني التي تحتوي على الألوان ، بدأ يرسم خطوطاً على الجدران محاولاً قدر إمكانه خلق حوار معهم .. وكان الرسم هو اللغة الثانية التي استعملها مختار معهم ..
جلس إلى جوارها .. تلك الفتاة الكرومانية الحسناء .. تبادلا الابتسام للحظات .. رسم على الصخور خطوطا تصور رحلته الشاقة داخل الكهف والفتاة التي يبحثون عنها .. لدهشته بدا له أنها وعت ما يريد أن يقوله .. أخبرته عن طريق بعض الخطوط والأشكال فهمها بعد فترة ليست قصيرة أنه أول إنسان حديث يصل إلى الوادي ..
وجدها مختار لعبة مسلية ، فراح يرسم مستفسراً عن سر وجودهم في هذا المكان النائي ، وكيف يمارسون حياتهم فيه ؟ وهل لهم ديانة أو عقيدة ؟.. أسئلة كثيرة راودت عالم الحفريات الدكتور مختار فوزي جعلها رسوم على الصخور وترك الإجابة عليها للمستقبل ..
اكتشف مختار بعد جهد جهيد وزمن طويل استغرقه أمام الرسوم والنقوش التي على الصخور والجدران ، ومن بعض الخطوط التي رسمتها الفتاة الحسناء أنهم قبيلة من جنس بائد تمكنوا من التغلب على الحياة القاسية التي عاشوها إبان العصر الجليدي الرابع ، فاستوطنوا الكهوف ومغارات الجبال، وأنهم يعرفون جيدا أن هناك أجناساً أخرى تشاركهم الحياة في هذا العالم ، يعيشون على الجانب الآخر من الكهف .. لكنهم لا يأمنون جانبهم ويصفونهم من خلال رسومهم بالجنس الشرير الذي يستطيع أن يبيد شعباً بأكمله .. فكم من مرات انهار الكهف عليهم وهلك منهم أعداد كبيرة بتفجيرات هذا الكائن الشرير ..
راح مختار يشرح لهم من خلال الرسوم أنهم في حقيقة الأمر من أصل واحد ، وإنما أسلوب الحياة هو الذي اختلف ، وأن أجدادهم الأولين أخطأوا عندما فرضوا على أنفسهم العزلة فتخلفوا عن ركب الحضارة والمدنية .. وعليهم الآن أن يتعرفوا على الإنسان الحديث ويعرفوا أسلحته وأساليبه التكنولوجية ..
عليهم أن يخرجوا من الكهف الذي عاشوا فيه آلاف السنين ..
لم يكن سهلاً على الدكتور مختار فوزي أن يخلق هذا الحوار مع الكرومانيين وأن يتجاوب معهم .. قضى معهم أياماً وليالي يقص عليهم خلال النقش على الجدران والرسم بالألوان حكاية الرجل الحديث .. صفاته .. حياته.. مشاكله .. علمه الهائل .. أكل مختار من أعشابهم ونباتاتهم الصحراوية وحيواناتهم الجبلية شرب من مياههم الجوفية .. نام على جلد غزال الرنة وتغطى بفراء الدببة .. فكر في العودة ، ولكنه تراجع .. فمن بحاجة إليه أكثر .. الإنسان الحديث بعلمه وفنه وحضارته، أم ساكن الكهوف الذي انحصرت حياته بين النحت في الصخور ومطاردة الأرنب البري ..
قرر مختار البقاء مع الكرومانيين .. علمهم كل شيء .. أعطاهم تجارب البشرية والفكر الإنساني في رسوم على الصخور .. شاركهم الصراخ والرقص حول النار .. لكنه أخبرهم أن هناك إلها أحق بالعبادة من النار .. كانوا ينصتون إلى رسومه كأنهم يستمعون إلى خطبة وطنية أو حديث ديني شائق . أصبح مختار رمزاً لهم ومثلاً أعلى .. فهو حكيمهم وفيلسوفهم وزعيمهم الأوحد.
ذات يوم .. بينما مختار يشرح لهم فكرة الطيران، وكيف وصل الإنسان الحديث إلى الفضاء الخارجي بطائراته وصواريخه وسفنه العملاقة ، وهم يلتفون حوله يتأملون رسمه في ذهول غير مصدقين .. إذا يدوي هائل يتردد صداه في المكان ، تبعه عدد من الانفجارات .. وصرخ مختار :
- احذروا الديناميت .. ادخلوا الكهوف ..
وأطبق عليهم الجبل ، لم ينج منهم غير أعداد قليلة راحت تصرخ مبتعدة عن المكان باحثة عن كهف تلوذ به من بطش الإنسان الحديث وغروره ..
بعد أعوام .. جاءت إلى نفس المكان بعثة كشفية جيولوجية ، أخبرهم أحد رجال المحاجر أن هناك كشفاً جيولوجياً بالمنطقة .. وقف الدكتور شفيق يشرح لتلاميذه الذين تجمعوا حوله :
- منذ أعوام كنا هنا في هذا الكهف بصحبة أستاذنا الجليل العالم الدكتور مختار فوزي رحمه الله - راح يبحث عن الدكتورة هالة - تعرفونها طبعاً - كانت معنا هي الأخرى وضلت الطريق داخل الكهف ، فذهب الدكتور مختار ومعه الدكتور سعيد توغلوا داخل الكهف ولكن عاد الدكتور سعيد وحيداً بينما انهار الكهف فوق الدكتور مختار ولقي حتفه يسكت الدكتور شفيق قليلاً وقد بدا عليه التأثر ، ثم يردف قائلاً :
- عندما عدنا وجدنا الدكتورة هالة في نفس المكان الذي وقعت فيه مغشياً عليها والدماء تنزف منها وتمكنا من إنقاذها ..
تدمع عينا الدكتور شفيق وهو يتذكر وقائع تلك الرحلة الرهيبة داخل الكهف ، أخرجه أحد تلاميذه ليسأله :
 - وما هذه الرسوم والنقوش التي على الجدران يا دكتور ؟
تأملها شفيق جيداً ، ثم أجابه :
- هذا الكهف كان يعيش فيه إبان العصر الجليدي الرابع قوم من الكرومانيين .. كانوا على درجة عالية من الذكاء ..
يقاطعه أحد التلاميذ :
- ولكن توجد هنا رسوم كأنها لطائرة .. وهذا رسم لصاروخ .. وهذه سفينة فضاء حديثة
يومئ شفيق في إعجاب وهو يقول مؤكداً :
- هذا دليل على أن فكرة ارتياد الفضاء كانت تراودهم .. ومن يدري .. فربما يكونوا قد وصلوا بالفعل إلى الفضاء .. فما أكثر الجوانب المظلمة من التاريخ لا نعلم عنها شيئاً ، وهذا دوركم يا أبنائي لكي تزيلوا عنها
النقاب …
ثم مال على أحد الجماجم كانت محشورة بين الصخور وأردف :
- كما ترون أمامكم .. تجويف المخ في الجانب الأيسر يبدو غائراً أكثر من الجانب الأيمن. دليل على أنهم كانوا يستعملون أيديهم اليمنى مثلنا .. وهذا الشق الذي أسفل الجمجمة فمن أثر ضربة شديدة بآلة حادة..
راحت العيون تتأمل الجمجمة في تعجب.. ينصتون إلى شرح الدكتور شفيق باهتمام، ومن بين الوجوه أطل وجه لفتاة فارعة الطول.. شعرها الأسود الفاحم ينسدل حتى ردفيها في انسيابية .. تشربت وجنتاها بحمرة خفيفة .. ذات جبهة عريضة مفلطحة ، وأنف عال بارز .. بالرغم من ملامح الهمجية التي تطل من ثنايا وجهها الكروماني ، فقد كانت جميلة .. رغم كل شيء ..

0 comments: