Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

متاهات الزمن سينمائياً ....الأدب العلمي العدد العشرون


جينا سلطان

قُدر على الروح أن تُصلب على جدار الزمن ، مما حتم على المادة الحية المتوجة بالعقل أن تدور في أروقة المتاهات الزمنية .. متاهات فرخت الأوهام وآلام الخيالات الجامحة، حين اكتست هيئة الحقائق ومفاتيحها الضائعة ... فبعضها وافق الاتجاه المستقيم المتزامن مع تسارع الكتلة الحية حتى وصولها إلى استواء التجربة وتحولها إلى شكل مختلف ، وآخر تبنى المسار الدائري الذي ينتهي بتطابق نقطة البداية مع النهاية مضافاً إليها الذخيرة التي تنهض كذاكرة متجددة مع كل انطلاقة .
أي أن الزمن يفُعل هويتنا الحركية، فتتقاطع داخلنا الخطوط والمنحنيات القديمة والحديثة ليصار إلى استنطاقها واستجلائها عند كل معاينة لمحتويات المخزون الهائل الذي ننطوي عليه.. فكيف انعكس صدى الزمن في الأعمال السينمائية وما هي آلية عمله في نحت وتلوين مفردات الحياة اليومية.

الزمن المستقيم والدائري
يقدم الفيلم الاميركي "The Curious Case Of BENJAMIN BUTTON " لبراد بيت وكيت بلانشيت، نموذجاً ممتازاً عن الزمن المستقيم الذي ينعكس وفق محوره. فحالة بينجامين بوتون تعطينا تصوراً مختلفاً عن سير التطور للمادة الحية الإنسانية، إذ يولد كطفل متجعد مستنزف الطاقات، بسبب خطأ ميكانيكي مقصود يدفع عقارب الساعة إلى الوراء. ويتدرج نحو الكهولة فاستواء الرجولة، ثم اليفاعة وانتهاء بالطفولة. مما يفرض عليه اكتساب إنسانيته من خلال تعاطف الأشخاص مع حالته الاستثنائية، أي أنه سيتطور وفقاً لمرونة القبول والانصياع لما تأتي به تصاريف الأقدار، بدون الدخول في معارك الصراع الوجودي. إذا انتقلنا إلى مفهوم الزمن الدائري في الفيلم الأمريكي " monkeys 12 " لبراد بيت وبروس ويلز، فسوف تستوقفنا حالة طفل يخترق نظره المستقبل. حيث يغدو رجلاً يسعى بدأب لإحباط مؤامرة تهدف إلى إفناء البشر عن طريق الجراثيم، تمهيداً لجعل القردة خليفة لهم في الأرض. وطبعاً يفشل البطل في تغيير قدره، وتأخذ القردة الغازية طريقها لتنفيذ هجومها. ويعود الفيلم إلى لقطة البداية مع الطفل الشاهد على موته. والمفارقة المضحكة أن القردة كانت زمرة مراهقين يقودهم شاب ثري، تتلبسهم نوازع القرود وأوصافها! وهو استخدام مؤثر لحالة الارتداد عن السوية الإنسانية.

تصريف الزمن على التوازي بين الحيوات
يتطور التصور الزمني في الفيلم الأميركي "hours" لميريل ستريب ونيكول كيدمان، ليقدم فكرة عن توازي الأزمنة ومعايشتها دفعة واحدة. ويطرح موضوع الانحراف الجنسي بوصفه انزياحاً عن السوية الطبيعية وتتم مناقشة حالاته بذكاء شديد وحرفية عالية جداً، مسيرة سينمائيا بطريقة لافت للنظر. حيث ترصد اثنتا عشرة ساعة في حياة ثلاث نساء وبنفس الوقت. بدءاً من الأديبة فيرجينا وولف التي أرقها شعور قلق غامض أوقعها في الاضطراب، فكتبت رواية مدام دالاوي. لتقرأها امرأة شابة أصغر بثلاثة أجيال فتتلبسها نفس الهواجس، فتصعد تمردها إلى حد نبذ طفليها وزوجها. وتأتي الثالثة لتحقق هذا الهاجس فعلياً. ويترك في خلفية اللوحة السينمائية شاهداً صغيراً يرصد بعيون قلقلة تبعات ذلك العبء وانعكاساته، ليكتسب مع دوران الزمن بعداً واقعياً. وكأن الفيلم يفترض أن سعة الحياة هي واحدة في الحالات الثلاث، ولكن طريقة توزيعها ومعايشتها تختلف. وبالتالي يتأتى لنفس الكيان أن يفاضل في النهاية بين مكتسباته في كل حالة، مع احتفاظه بنقطة الرصد الأولية التي تقع على التوازي مع بقية النقاط.

الصيرورة في مصيدة الوقت
وإذا انتقلنا إلى الأفلام الصينية نرى اختلافاً في التعامل مع مفهوم الزمن إذ تظهر تأثيرات مذاهب وحدة الوجود. فتبرز في فيلم »The Eye « مقولة مصيدة الوقت وهي تتعلق باللعنة التي تطول أرواح المنتحرين وتقضي عليهم بخوض تجربة الموت يومياً إلى أن يغفر لهم. وهكذا يبدو الزمن وكأنه عالق يترصد ضحيته من أجل إكسابها درساً معيناً كما في حالة الموسيقية الشابة العمياء «ووانغ كارمون » التي تُزرع لها قرينة فتاة تدعى لينغ. فتنتقل إليها موهبة استثنائية تتمثل في رؤية الأطياف المغادرة لأجسادها، ويترافق الأمر بمعايشة الألم الذي يعوق هذه الأرواح عن مواصلة رحلتها بحرية نحو الاتجاه الآخر. كالطفل الذي انتحر لأنه أضاع ورقة امتحانه، ولينغ التي انتحرت لأنها نبذت بسبب قدرتها التنبؤية الخارقة. تتعاقب المشاهد بفاعلية متلبسة بالغموض، تتوافق تماماً مع ضبابية الزمن واضطرابه داخل نفس ووانغ وخاصة عند جزعها في مواجهة مصيدة الوقت. ويصل المخرج إلى حد إلغاء الزمن عند مشاهد الحريق الذي يلتهم البشر ويُفقد ووانغ بصرها مجدداً. ولكن هذه المرة تستوعب الشابة درس القدر وتتلمس الغنى والجمال الحقيقي في النفوس فيتوسع بعدها الإنساني.

حاجز الزمن
في الفيلم الصيني الأسطوري «العهد » يُستعاد الزمن المستقيم عبر حيل بارعة وحشود ضخمة وإثارة مراوغة تشابه دخول الأحلام واختراق المسافات اللامحدودة لإنجاز القدر. وهنا يبرز سؤال مهم يتعلق بكيفية إيقاف الزمن وهل يمكن التنصل من عهد تم قطعه في لحظة غفلة، وعدم إدراك؟ وأين تكمن العدالة التي تطبقها ممثلة القدرة حين تستغل لحظة الجوع الساحق عند الطفلة كوينغتشينغ، وإحساس الخذلان المريع في نفس الفتى ووهويان وبزوغ حب جميل في قلب الجنرال القاسي، وتستخدمها لرسم ملامح قدر سيلف مصائرهم ويضع خاتمة تجوالهم في العالم البشري. الطفلة كوينغتشينغ التي تهرب من العبودية تغدو فاتنة تسحر الرجال المتصارعين فيأسرونها في قفص ذهبي، والفتى المسكون بالخديعة يصبح سيد حرب كبير إلا أنه يسافر دوماً في ظل رجل عظيم كالجنرال. وبالنتيجة الثلاثة معاً يشكلون مع الصبية حلقة مغلقة تحدق بها اللعنة المرصودة. فيسعى العبد كونلون ( أمير سابق ) لاختراق حاجز الوقت لتغير المسار المرسوم، وذلك بالركض المستمر وصولاً إلى اكتساب السرعة الحقيقية التي تتلازم مع الوضوح والثقة والنور. وينجح في اختراق حاجز الزمن، ولكنه يبقى مصلوباً في الفراغ، وهو يعايش المعاناة دون أن يتمكن من التدخل لإيقافها.

أبواب الزمن
الزمن في فيلم "cloud atlas" لتوم هانكس، يبدو اقرب إلى ترنيمة موسيقية تتصاعد في علو وهبوط دونما تنسيق أو اعتبار لانسياب الزمن الكلاسيكي من الماضي الى الحاضر فالمستقبل.. بل هو أبواب يطل من خلالها البطل على تصاريف قانون الكارما: الفعل ورد الفعل.. فليتقي أحباءه ويواجه اعداءه في جولات متجددة يتبادلون خلالها الأدوار والخبرات والتفكير. وتلوح فكرة أساسية هنا تدور حول ماهي الآخر الذي من خلاله نتعلم معنى الوجود القائم على الحب.. وبالتالي يقلص الباب الزمن الكلاسيكي ليسرع إنجاز التجربة عبر الانتقال من المستقبل إلى الماضي لاستكمال فكرة عالقة أو إصلاح عثرة.. أي أن الزمن هنا يفعّل التقمص ويعطي للعدالة مفهوماً شمولياً أوسع، ويسهل تنقل البطل بين حيواته المختلفة وصولاً إلى المعنى الكامن خلف الأشياء.

إيقاف الزمن
يتوقف الزمن كلياً في الفيلم الاميركي "Gabriel" تزامناً مع اختفاء النور، ليصول العنف بين الجنبات الخائفة معلناً احتضار الأرواح التي أجبرت على التوغل في حياة بهيمية. وتصل القسوة إلى ذروتها مع وصول رئيس الملائكة غابرييل إلى الأرض، لينقذ ملائكة القوس من فسوق الشياطين واتباعهم الذين صبغوا عالم الأرض بالكراهية. وتتمثل الفكرة الأساسية وراء انطفاء الزمن في شهوة القوة المغلفة بقناع الحرية، والتي كانت لعبة إبليس الحقيقية. مهما يكن من أمر الزمن، مستقيماً  دائرياً، مضغوطاً على التوازي فإنه يبقى دوماً رهينة تصوراتنا الخاصة، وآلية إحساسنا بتعاقبه وتراجعه وحتى توقفه. بينما لغزه الغامض سيثير دفقاً من التساؤلات والتكهنات ستنعكس إلهاماً على أوراق الكتاب وأشرطة السينمائيين.

مجلة الأدب العلمي العدد العشرون  دراسات وأبحاث

0 comments: