Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

جوسيني صانع البهجة ....الأدب العلمي العدد السابع عشر


د. هاني الحجاج

الرائق صاحب الأفكار المدهشة التي لا تنتهي ... إنه "جوسيني" .."رينيه جوسيني" ،أحد أبرع كتّاب سيناريوهات القصص المصورة على الإطلاق، وأحد هؤلاء الذين وضعوا أساسيات الإبداع، كدافينشي ... خاض حرباً خاصة لتطوير أدواته وأساليب كتابة القصة المصورة .. بداية السياحة الجمالية في حياته كانت بسبب انتقاله المستمر بين باريس وبوينوس أيرس لظروف عمل والده كمهندس في الأرجنتين .
ولد )رينيه جوسيني( عام 1926 في باريس، طفل انطوائي لا يحب الصخب ولا يفلح في أي لعبة رياضية، كلما جرّب رياضة ما كما يفعل أقرانه، باءت المحاولة بالفشل. لكنه نجح في أن يقرأ كل ما يقع تحت يده، وعشق بشكل خاص عوالم سوبرمان وشخصيات ديزني وطرزان وزيج وبوس، واكتشف في نفسه تلك الرغبة العظيمة في إضحاك الآخرين، حتى لو كان ذلك على حساب نفسه، وحتى لو تلاعب بملامح وجهه مراراً ليرسم البسمة على الوجوه، فما كانت تكتمل سعادته إلا عندما يشعر بالبهجة تتدفق من الآخرين، ورفاقه في الأرجنتين يتجمعون حوله في المدرسة ليقص لهم القصص المضحكة المثيرة. هكذا كان من الطبيعي أن يدرس الآداب والفنون الجميلة، وحصل على شهادته عام 1943 ، لكن القدر ترصّده فتوفى والده في نفس التوقيت مما اضطره إلى إنها كافة أحلامه الدراسية الجديدة، إذ كان لابد له من أن يعمل. تعلم مع نفسه أساليب جديدة للرسم حتى ينتقل إلى وظيفة تناسب موهبته، فأجاد رسم شخصيات ديزني المختلفة وذهب باسكشاته إلى شركة كبيرة في مجال الدعاية والإعلان، وكان أول عمل له هو تصميم ملصق دعائي يوضع على زجاجات زيت الزيتون، رسم زخارف مبتكرة من أغصان الزيتون، فانقطع عيشه في الحال، لأن الزبائن كانوا يفضلون رسوم النساء العاريات! ضاقت به عيشته في الأرجنتين؛ فحمل حقائبه إلى الولايات المتحدة، والأحلام تعصف برأسه للعمل في مؤسسة والت ديزني العملاق الذي كان يجهل كل شيء عنه. عاش وحيداً كالمتشردين في نيويورك ولم يبلغ التاسعة عشرة من عمره.
وكل ما يعرفه هو القليل من الإنجليزية وخطوط معقولة في فن الرسم. وزاد الحال سوءاً عندما التحق بالخدمة الإجبارية في الجيش. كان يمقت الجو الأمريكي، عاش في ذكريات طفولته السعيدة في )لا بامبا(، الطبيعة الساحرة وركوب الخيل في الخلاء، والإبحار مع أبناء عمه على شواطئ فرنسا، لم يكن يرغب في أن يكون أميركياً، كان نظام الحياة الأمريكية يثير الهلع في نفسه، يجب أن يعمل كالثور نظير قروش قليلة، وأن يُبدِّل مسكنه وسيارته وجيرانه كل فترة. ظل يحلم بالعودة إلى فرنسا، وكانت زياراته القصيرة لها تؤجج هذا الشوق في نفسه وتُكثِّف من ألوان صورتها الرومانسية في خياله، حتى عندما عاد إليها عام 1946 كانت فاجعته الكبرى عندما رأى الدمار الذي ألحقته الحرب العالمية الثانية ببلده الحبيب. لعل في هذا كان الخير له! عندما عاد إلى أمريكا حدثت معه صدفة عجيبة، إذ التقى بأحد أصدقاء والده الذي اصطحبه إلى ستوديو يعمل به كل من )ويل إيلدر( و)هارفري كورتزمان( و)جاك ديفيس(.. هل تعرف هذه الأسماء؟ هذه هي المجموعة التي ستبتكر فيما بعد الحلم الكوميدي الممتع المجنون: مجلة )ماد(. وكالعادة يثبت الفنان الحقيقي أنه إنسان حقيقي. تلقّوه بالترحاب وساعدوه على رسوم أغلفة بعض كتب الأطفال، وعندما استقر به المقام نوعاً بدأ ينظر إلى الحلم الأمريكي بعين الناقد الصامت، هذه النظرة الساخرة التي خلقت فيما بعد الشخصية الأمريكية الظريفة التي لا يمكن أن تكون قد مُحيت من خيالك.. لاكي لوك! لقد كتب أفضل قصص لاكي لوك مع )موريس( وأفضل صفحات )جيري سبرنج( مع )جيجيه(، كما أن الأول قدّمه إلى مدير إحدى الوكالات الصحفية البلجيكية الذي طلب منه أن يعرض عليه بعض أعماله فيما بعد، بعدها يذهب إلى )جوسيني( ومعه عدة صفحات من )مغامرات ديك ديكس(. كانت هذه هي الوكالة الشهيرة )وورد بريس(، وهناك التقى بكاتب سيناريو الكومكس الأشهر )جان ميشيل شارلييه( والذي سيؤسس معه فيما بعد مجلة القصص المصورة الجميلة )بيلوت( بعد أن يرى شارلييه في هذا الوافد الفرنسي جوهرة من الأفكار المتجددة ووجهات النظر غير المسبوقة في مجال السيناريو. لا يمكن أن يترك هذا الموهوب المدهش يفلت من بين يديه. لكن أين )جوسيني( بينما هذه المداولات تتم فيه الوكالة؟ لقد مر عام كامل وأحواله تسوء ويعيش على بعض نقود اقترضها من معارف لديه، حتى بلغ منه اليأس مبلغه لدرجة أنه فكر في أن يترك عبث الرسم والقصص ويبحث لنفسه عن عمل جيد يقتات منه. هنا وصلته برقية من )وورد بريس):"احضر فوراً، شرائح رسوم )ديك ديكس( مقبولة. " وظل يقدم لهم لعدة سنوات قصصه المصورة التي يكتبها ويرسمها بنفسه، وأولها مغامرات ديك ديكس، المخبر الأمريكي، ثم شخصية الكابتن بيبوبو، ولاحظ القائمين على تحرير هذه المجلات أن حبكة السيناريو عنده أقوى من خطوط الرسم نفسها. فكان أن أرسلته الوكالة إلى مكتبها الجديد في باريس، وكانت لديهم في هذا الوقت فكرة غير مختمرة عن نشر صحيفة باللغة الإنجليزية في نيويورك، وكان جوسيني هو الوحيد الذي يجيد الإنجليزية بينهم، فكان نصيبه أن يشد الرحال من جديد إلى أمريكا. وكان من نصيب الجريدة أن تفشل، لكن )جوسيني( قد اكتسب خبرة أكبر، وفكر في شخصية جديدة تسمى )بيستولين( وحلم ببطل جهنمي يقضي على الأشرار في لمح البصر دون أن يمسه مكروه، وكان السائد هو أن يكون أبطال الكومكس من الرجال وقتها، قبل أن تسود في سنوات بعيدة لاحقاً فكرة البطلة واستخدام عنصر الإغراء النسائي. فيما بعد ستطلق الولايات المتحدة سلاسل لا نهائية من الكومكس الإباحي وسوف يتخصص أكثر من قائم على المانجا الياباني في القصص المصورة الفاحشة )هينتاي(. أما في أيام جوسيني البريئة فكانت تحكم الكومكس الأوروبي قواعد شديدة الصرامة، حتى أن المجلات كانت تُعيِّن بعض الموظفين، لا يتقاضون أجورهم إلا للرقابة على ما يخرجه الكاتب والرسام قبل أن يذهب إلى المطبعة، وعليهم التأكد من طول ملابس الفتيات، والكلمات الخارجة، ونسبة العنف والدم في القصص! بالرغم من أنها لم تكن مجلات أطفال لكن الشعور بالمسئولية كان عالياً، وقال )جوسيني( يوماً: «لم أعمل بشكل خاص للأطفال.. لا.. وكذلك لم أعمل بشكل خاص للكبار. أنا أعمل لنفسي! هناك بعض الأعمال التي يمكن توجيهها لنوعيات محددة من الجمهور! ولكني لا أجد الكومكس أحد هذه الأعمال، خاصة الكوميدي منها! وبالرغم من أننا يتم تصنيفنا على أننا نكتب للأطفال ولكن الحقيقة ليست كذلك! » هذه عبارة ذهبية نتعلم منها الكثير، ونعرف منها لماذا نحب قراءة ميكي حتى الآن!! في ظل هذه الأفكار تولى )جوسيني(مسؤولية كتابة سيناريوهات سلسلة لاكي لوك على عاتقه، ذلك أن الفنان )موريس( كان يُفضِّل الرسم على الكتابة، لم يكن يحب أن يُرهق رأسه في البحث عن الأفكار التي كانت ترد على ذهن )جوسيني( طازجة دون جهد، فيضعها على الورق في الحال ويُلقي بها بين يدي )موريس( لتعمل ريشته على خلق الجو الأمثل لها في الكادرات، وكان )موريس( قد بدأ في رسم السلسلة في مجلة )سبيرو( منذ 1946 ، متأثراً بخطوط والت ديزني، وبعد تعاونه مع جوسيني الذي قدَّم ملاحظاته الفنية الهامة، أخذت السلسلة شكلها الرئيسي المعروف. وكانت ذات القوانين الأخلاقية التي تحكمهما، فحبل المشنقة يتم حذفه، وتغطية سيقان الراقصات في الصالون، ورغم تغيُّر هذه القواعد فيما بعد، لكن ظلت سلسلة )لاكي لوك( محافظة على ذات السمات النظيفة فالفارس نبيل لا يريق الدم ولا يقتل ولا يمارس الرذائل أبداً!

0 comments: