Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

هل تتعلم الحيوانات وتتثقف؟ ..... الأدب العلمي العدد التاسع


د. عمار سليمان علي

إذا كان الاعتقاد السائد هو أن الحيوانات تتصرف وفق فطرتها وغريزتها ، بما يحفظ وجودها ويبقيها على قيد الحياة ، فإن عالم الحيوانات البرية ، ولاسيما الثدييات منها ، لا يخلو على ما يبدو من شواهد وأدلة توحي بأن الحيوانات يمكنها أيضاً ، زيادة على الفطرة والغريزة ، أن تتعلم السلوكيات من بعضها البعض .
ولعل القرود هي الأشهر بين الحيوانات في موضوع التقليد ونسخ السلوكيات والتصرفات من الغير، بشكل مشابه لما يفعله البشر العقلاء، لكن هناك أيضاً حيوانات أخرى تنطبق عليها المقولة الخاصة بالقرود: (القرد يرى، القرد يفعل) حسب ما تقول دراستان حديثتان: الأولى حول القرود الافريقية الصغيرة vervet والثانية حول الحيتان الحدباء whale  humpback ، قام بهما باحثون في جامعة القديس أندروز في اسكتلندا، ونشرتا في مجلة العلم Science في 25 نيسان 2013 .
ووفق الخبير في نشوء الثقافات بيترريتشرسون Peter Richerson من جامعة كاليفورنيا في دافيس، فإن "تقليد فرد لتصرفات الآخرين على وجه صحيح هو حجر أساس محتمل للثقافة ". ويضيف ريتشرسون ،قائلاً: "تُبنى الثقافة المركبة من خلال تعلم البشر المهارات من بعضهم البعض "وفي الواقع، سبق للعلماء أن اكتشفوا علامات تدل على وجود تعلم اجتماعي لدى القرود والطيور وحيوانات أخرى.
وفي الواقع، سبق للعلماء أن اكتشفوا علامات تدل على وجود تعلم اجتماعي لدى القرود والطيور وحيوانات أخرى، لكن معظم الدراسات القديمة اعتمدت على ملاحظات ميدانية أو تجارب على حيوانات محجوزة، حسب ما يقول أندرو وايتن Andrew Whiten عالم البيولوجيا المعرفية في جامعة القديس أندروز في اسكتلندا. من هنا قرر وايتن وفريقه القيام بتجربة تدرس دور التعلم الاجتماعي لدى الحيوانات البرية، ولهذه الغاية أقاموا منطقة محمية وضعوا فيها أربع مجموعات من القرود الافريقية الصغيرة التي تعيش في افريقيا الجنوبية، وقدّموا لها الذرة الملوّنة بلونين اثنين: قرنفلي وأزرق، ودرّبوها على أن تأكل الذرة من لون واحد فقط، وتزدري أو تستبعد الذرة من اللون الآخر، حيث كان الباحثون يبلّلون أحد النوعين/اللونين بمحلول نبات الصبر الذي تعتبره القرود مقرفاً. بعد ذلك انتظر الباحثون أربعة إلى ستة أشهر حتى ولادة جيل جديد من القرود. ثم أحضروا كلا النوعين من الذرة الملوّنة، ولكن هذه المرة لم يكن أي منهما ملوثاً بالطعم الكريه. وقد تبيّن أن معظم القرود البالغة بقيت مخلصة للون الذي تعلمت أنه لذيذ، وكل القرود الرضيعة عدا واحداً (أي 26 من أصل 27 ) أكلت بشهية الذرة من اللون الذي فضلته المجموعة التي تنتمي إليها. من جهة أخرى، وبما أن ذكور القرود الافريقية الصغيرة كانت تمتلك حرية الانتقال بين المجموعات، فقد سجل الباحثون ملاحظة تقول: إن تسعة من أصل عشرة ذكور انتقلت من اللون القرنفلي إلى اللون الأزرق، أو العكس، أي بدّلت لونها المفضل، وأصبحت تأكل ما تأكله القرود المستقرة في مكانها دون انتقال. وهنا يعتبر وايتن أن "القرود المهاجرة يمكن أن تكون قد التقطت المعرفة المحلية حول الطعام، أو أنها كانت تبحث عن التلاؤم مع أصدقائها الجدد، محاولة أن تكون مثل الآخرين في طريقة الالتزام بمجموعة جديدة ." بالانتقال إلى التجربة الثانية المتعلقة بالحيتان الحدباء، والتي أشرف عليها عالم الأحياء البحرية لوك ريندل Luke Rendell من جامعة القديس أندروز أيضاً، يتبيّن أن هذه الحيتان هي الأخرى تتعلم من زملائها وأبناء جنسها سلوكاً يتعلق بالطعام. فمن المعروف أن الحيتان الحدباء عادةً تنفخ فقاعات تحت الماء لجمع الفرائس، ولكن في عام 1980 ، تم رصد حوت أحدب وحيد يضيف حيلة جديدة إلى التقنية القديمة، فهو قبل أن يشكّل شبكة فقاعاته لصيد الفرائس، قام بضرب ذيله بقوة على سطح البحر. تلك الضربة العنيفة للأعلى رجّت الماء بقوة وساعدت الحوت على اصطياد المزيد من الفرائس. منذ ذلك الوقت قام المزيد والمزيد من الحيتان الحدباء باكتساب تلك المهارة التي سميت "التغذية بقذف الذيل ." وفي تفاصيل دراسة ريندل وفريقه التي استغرقت سبعة وعشرين عاماً، قام خلالها الباحثون  عبر مراقبتهم اللصيقة للحيتان  برسم مشاهد لمجموعات عملاقة من الحيتان الحدباء في خليج ماين Maine ، حيث أنجزوا أكثر من ثلاثة وسبعين ألف مشهد، كما دوّنوا معلومات عن التاريخ والهوية والسلوك (بما فيها التقنية المستخدمة في الصيد) عند كل حوت أحدب راقبوه. بعد ذلك، قام فريق البحث باستعمال تحليل شبكات لرسم الروابط  بين الحيتان الحدباء وأصدقائها، بما يمكن أن يشبّه بشبكة تواصل اجتماعي خاصة بالحيتان الحدباء. وقد تبيّن وفق نتائج الدراسة التحليلية, أنه كلما طال الوقت الذي تقضيه الحيتان الحدباء مع أفراد من جنسها يتغذون بقذف الذيل، كان تعلمها للتقنية أسرع. كما أنه كلما كان للحوت أصدقاء أكثر يصطادون فرائسهم بقذف الذيل، كان احتمال تطويره للمهارة أكبر. وزيادة على ذلك، بيّنت النتائج أن الحيتان الحدباء، التي راقبها الباحثون من قبل وهي تتعلم الأغاني من بعضها البعض، نجحت أيضاً في تعلم سلوكيات الاصطياد. من هنا يؤكد ريندل أنه يمكن "في هذا القطاع، أن يتم التقاط تقاليد عديدة متواصلة ،" مدافعاً بقوة عن فكرة أن "هذا يمكن أن يكون تأسيساً للثقافة عند الحيتان ". لكنها فكرة تظل محل جدال شديد، وفق ما ترى راشيل كندل Rachel Kendalعالمة الأنثروبولوجيا التطورية من جامعة دورهام Durham في بريطانيا، رغم اعترافها و إقرارها بأن ريندل وفريقه "قاموا بعمل جيد وتفوقوا على كثير من الانتقادات التي كانت بانتظارهم ." ولا يخالفها ريندل كثيراً، فهو رغم تمنيه أن يكون قادراً على حسم القضية وإغلاقها نهائياً، ورغم اعتباره أنه وفريقه نجحوا، على الأقل، في جعل الحيتان الحدباء جزءاً من ذلك السياق الداعم لفكرته، إلا أنه يميل للاعتقاد "أنه سيكون هناك دوماً شك حول الثقافة والتقاليد عند الحيوانات " لأنه موضوع شائك وعويص وبالغ التعقيد، ويبدو أنه سيبقى محل تجاذب وتشكيك وأخذ ورد قبل أن يُحسم تماماً ويُغلق باب الجدال حوله نهائياً .

مجلة الأدب العلمي  العدد التاسع  محطات 

0 comments: