Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

التأقلم بين الإنسان والكائنات الحية الأخرى ...الأدب العلمي العدد السابع


د. عمار النبطي 

عندما ينتقل الإنسان من بيئته التي يعيش فيها إلى بيئة أخرى تغايرها في ظروفها المعيشية فإنه يقضي فترة حتى يستطيع التأقلم ..فلو انتقل أي فرد من الإسكيمو (وهم جماعة من البشر تقطن المناطق المتجمدة الشمالية ) إلى بيئة استوائية حارة –فإنه غالباً لا يستطيع البقاء فيها لفترة طويلة ..بل يهرب من حرها إلى بيئة باردة تشابه في ظروفها بيئته الأصلية ...وعلى الرغم من أن جسم الإنسان هش ، فإن له قدرة كبيرة على التكيف في أي بيئة طبيعية خلال مدة قد تطول أو تقصر حسب الظروف ، مستعملاً في ذلك عقله الذي هو عامل أساسي في تحديه للطبيعة .
وللجسم البشري ظروف خاصة تلائم حياته.. ولعل أكبر تجمع سكاني يستقر في المناطق المعتدلة التي تتقارب فيها  نسبياً  درجات الحرارة في الصيف والشتاء .. ومن هذه المناطق بدأت مدنية الإنسان متفوقة بحضاراتها على المناطق الأخرى.. وتحدي الإنسان للظروف الطبيعية أمر معروف .. ولعل أكبر مثال على ذلك غزو الفضاء والمحيطات … وغزو القمم العالية المرتفعة .. ففي تسلق الجبال المرتفعة يعتبر غزو قمة "أفرست" .. في جبال الهيمالايا بالهند "وهي ترتفع عن سطح البحر 9000 متر "  أكبر حدث تاريخي في تسلق القمم … فقد قام (تينسنج) أحد سكان منطقة الهمالايا المرتفعة و (هيلاري)  أحد متسلقي الجبال النيوزيلانديين  بتسلق هذه القمة التي الحياة عليها ليست صعبة فحسب … بل يعتبر الوقوف فوقها بضع دقائق من الأمور المستحيلة إلا أن هذين المتسلقين اعتليا القمة .. ومكثا عليها حوالي ربع الساعة.. وربما ساعدهما في ذلك: التمرين الدائب الطويل . كان النيوزيلاندي (هيلاري) يتمتع بصفات فريدة فنتيجة لتحمله المناخات القاسية شديدة البرودة ولتسلقه المستمر للجبال نمت عنده مقاومة البرد الشديد ، والقدرة على اقتصاد الطاقة عند التسلق الشاق ، وتعبئة جسمه بالاحتياطي من الحرارة.. أما ( تينسنج) فكان لسنوات عديدة دليلاً في جبال هيمالايا وعضواً في أقوى فرق متسلقي الجبال ، وكان كثيراً ما يمكث في المناطق المرتفعة عدة أشهر .. بل من الطريف أنه ولد على ارتفاع ( 4000 ) متر فوق سطح البحر .. ولم يعش في المناطق المنخفضة مطلقاً .. ويملك أفراد قبيلته المسماة شيربي رئات تختلف عن رئات قاطني الأودية .. لدرجة أنه مرض الجبال لا يخيفهم … تسلق الرجلان قمة أفرست نتيجة لتخطيط مدروس وتفكير مقرون بالتجربة وقد نظرا بعين الاعتبار الصعوبات التي عانى منها المتسلقون القدامى ، فحاولا تلافيها وقد اشترك في رحلتهما حوالي( 200 ) شخص .. وأقيم على الطريق الصاعدة ( 11 ) معسكراً ... وأدوات تسلق الجبال التي استخدماها كانت متنوعة .. ( بلطة الجليد  البريموس  القمطرات  أحذية خاصة  أربطة وملابس خاصة أيضاً  وحبال قوية .. ) وكلها مأمونة .. كما استعملا أجهزة صغيرة في قياس الضغط والحرارة ومقدار الارتفاع عن سطح البحر .. وقد علقا أجهزة الأوكسجين على ظهريهما .. وبعد أن وصلا القمة خلعا الكمامة وتنفسا الهواء المخلخل الذي يختلف بأربع مرات عن الهواء العادي .. ولا شك أنه لولا الخبرات السابقة لما استطاع الرجلان تسلق تلك المنحدرات الشامخة .. كما أن الذكاء الجماعي والتعاون قد ساعدهما ومكنهما من الفوز والانتصار على تلك الظروف القاسية وتحقيق مهمتهما بنجاح .. والشيء نفسه ينطبق على صيادي الإسفنج.. فلو حاول شخص عادي الغوص إلى الأعماق التي يصلون إليها ، لما استطاع تحمل الظروف القاسية ، فلرئات صيادي الإسفنج صفات خاصة مكنتهم من التعود على الظروف الصعبة عند الغوص إلى الأعماق .. وينطبق ذلك أيضاً على غزو الفضاء ، الذي يحتاج اختراقه إلى الانتصار على عدة عوامل، فطبيعة الفضاء الكوني تتصف بصفات من  المستحيل على الإنسان اجتيازها دون وقاية .. فالضوضاء والاهتزازات وانعدام الوزن وزيادة السرعة وغيرها .. يجب التغلب عليها تماماً حتى يستطيع الإنسان التسرب إلى الفضاء أو الهبوط على الكواكب ...

البيئة والكائنات الدقيقة 

لكل بيئة حياتية ظروفها ومناخها .. ولكل بيئة أيضاً أحياؤها … فكائنات القطب لا تستطيع العيش في المناطق الاستوائية .. وإذا كان بإمكانها التأقلم .. فإنها تقضي زمناً طويلاً قبل أن تنجح في ذلك … وللكائنات هذه أنواع وأجناس تقدر بالملايين .. لكل منها حياته الخاصة .. وطبيعته .. وتجري بشكل واسع حالياً دراسة هذه الكائنات من جميع الجوانب .. دراسة مستفيضة ، بغية التعرف عليها تماماً وبناء الأسس الثابتة لنظريات علمية هامة في (علم الأحياء ) …

ففي المناطق القطبية 

( وفي القطب الجنوبي خاصة ) توجد كائنات دقيقة يمكنها العيش في درجة قد تصل إلى ( 87,4 ) ( تحت الصفر ) ، وبعض الكائنات الأخرى تستطيع العيش بدرجة من البرودة قد تصل إلى (271,8 ) تحت الصفر ( وهي درجةقريبة من الصفر المطلق )  ( - 0273 )دون أن تموت ودون أن تفقد قدرتها الحركية .. والعجيب ان هذه الكائنات تستطيع أن تتحمل ذلك لمدة طويلة .. وبين فترة وأخرى يكتشف الباحثون في المناطق الدائمة التجمد بسيبيريا ، جثثاً أو بقايا حيوانات عاشت منذ ملايين السنين تحتوي على كائنات دقيقة حية لا تزاول نشاطها الحيوي بشكل طبيعي … ويمكن لبعض الديدان أن تعيش في درجات حرارية منخفضة جداً قد تصل إلى ( - 240 ) في جو خالٍ من الرطوبة تقريباً . مقابل هذه الدرجات المنخفضة توجد درجات عالية من الحرارة ، تحيا فيها بعض الكائنات .. ففي صحراء ليبيا وفي وادي الموت بكاليفورنيا حيث الحرارة الحارقة تصل درجتها في الظل نحو ( 60 ) فوق الصفر .. والرمل يتوهج والقيظ لا يمكن احتماله ، يمكن في هذه الظروف العصيبة العسيرة أن نكتشف وجود بعض الكائنات كالبكتريا والطحالب .. كما يمكن اكتشاف هذه الأحياء الدقيقة في المياه المعدنية ، التي قد تصل درجة حرارتها إلى الغليان ( 100 ) درجة مئوية …

وفي الصين 

تعيش بعض الأسماك الملونة ( بطول 15 سم تقريباً ) في درجات حرارة قد تصل إلى ( 50 ) درجة فوق الصفر .. والماء من ضروريات الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها على الإطلاق .. ( وربما توجد كائنات متخشبة لا تعتمد على الماء لم تكتشف بعد ) ففي عالم الأحياء يوجد 99 صنفاً وقبيلة ، تبتدئ بقبيلة الطحالب النباتية البدائية . وتنتهي بصنف الثدييات (التي منها الإنسان ) .. من هذه الأصناف نجد ( 72 )صنفاً يعيش في الماء أما الكائنات الأخرى فيلزمها مقدار معين من الرطوبة حتى تستطيع الاستمرار في الحياة فوق اليابسة . ( حتى ولو كان ذلك المقدار ضئيلاً) وفي وادي حلفا في السودان وفي صحراء أتاكاما في جمهورية التشيلي حيث تسقط الأمطار بمعدل (1) مليمتر فقط .. تعيش النباتات والحيوانات بشكل اعتيادي بعد تأقلمها مع هذه الظروف القاسية . ( وعلى الأخص الديدان والحيوانات اللافقارية الأخرى. وعندما يتمكن الجفاف من هذه الكائنات تتحول إلى كتلة يابسة قليلة الحركة فتبدو بدون شكل ، معدومة من الحياة تماماً . ولكن إذا نقلت إلى بيئة ملائمة ولو بعد سنين.. فإنها تبدأ الحياة من جديد .. والهواء من ضروريات الحياة أيضاً .. كل الكائنات النباتية والحيوانية لا تستطيع الحياة بدونه .. تأخذه أحياناً بصورته العادية .. وأحياناً بشكل محلول كما في حالة الكائنات البحرية .. والإنسان كأبرز مثال .. لا يمكن أن يبقى بدون هواء أكثر من 4 إلى 6 دقائق .. في حين يستطيع البقاء دون شراب لمدة أربعة أو خمسة أيام .. والبقاء دون طعام لمدة قد تصل إلى شهر ..
والهواء . الذي تتنفسه الأحياء أغلبه من الأوكسجين ، والنباتات تتنفس غاز الفحم أثناء النهار والأوكسجين أثناء الليل .. وبعض الأحياء تعيش في ظروف لا هوائية كتلك التي تعيش على ارتفاع ( 400 ) متر فوق سطح الأرض ..  أما الضغط بالنسبة للكائنات الحية .. فهو يختلف من كائن لآخر .. ففي الأعماق البحرية حيث يكون الضغط كبيراً تعيش ملايين الكائنات بمختلف الضغوط ( وحيدات خلية أو كثيرات خلايا ) . وتستطيع الطيور الجارحة تحمل ضغوط منخفضة ، وبعض الفطريات تستطيع تحمل (8000 ) ضغط جوي .. والإنسان يعيش في ضغط ملائم يساوي ضغط جوي واحد ( 76 سنتمتر زئبق ) . وفي الجو العالي تمكن العلماء من اكتشاف فطريات ، وجراثيم فطرية على ارتفاع ( 21) كيلو متراً .. وقد حفظوها مدة طويلة عن طريق التجمد ..
أما الإشعاع وتأثيره على الأحياء .. فكل ثانية يخترق جسم الإنسان آلاف الأشعة الكونية المنتشرة في كل مكان .. والإشعاع سواء أكان كونياً أم غير كوني يستطيع الكائن تحمله حتى قوة ( 200000 ) رونتجين وأحياناً لا يبلغ التحمل مقدار ( 4000 ) رونتجين .. وقد تتحمل الحشرات ( بعض الأنواع منها) ما يتحمله جسم الإنسان ب ( 300 ) ضعف تقريباً …

البيئة والحيوان 

تبعاً لهذه الظروف كلها .. التي تحيط بكل كائن حي يمكننا أن نعطي بعض الأمثلة .. عن حيوانات تحيا في بيئة معينة تغيرها في هجرات متتالية من أجل هدف محدد .. وهذه الحيوانات مهددة بالانقراض نتيجة لمحاولة الإنسان القضاء عليها أحياناً وأحياناً بعوامل طبيعية لا دخل له فيها … ومن أبرز الأمثلة ما حصل لبقر البيسون الأمريكي الذي غمرت قطعانه السهول والجبال ترتع وتمرح بملايين هائلة العدد .. إذ إن القطيع الواحد يبلغ تعداده حوالي أربعة ملايين رأس . ويتميز البيسون بضخامة رأسه وقصر عنقه البارز بين الكتفين المرتفعين ولحيته الطويلة وذيله القصير مع رشاقة أطرافه وقرونه الصغيرة ولونه البني الداكن.  قطعان هائلة العدد ، ترحل مع الفصول طلباً للكلأ والماء في برارٍ شاسعة دون أن ينازعها حيوان آخر ، ترحل تارة إلى الجنوب ، وتارة إلى الشمال ، في سبيل الغذاء والماء … ودخل البيض أمريكا .. ونظم البعض منهم فرقاً خاصة لاصطياده عرفت باسم رعاة البقر أخذت عصاباتهم تغزو هذه القطعان الهائلة وتقتل وتقتل وتقتل ، سعياً وراء اللحم … وفاض اللحم عن الحاجة .. فعمدوا إلى قطع الألسنة ليستفيدوا منها في أغراضهم الخاصة وتغذيتهم .. كان الثور يجندل برصاص المسدسات والبنادق من أجل لسانه فقط . وتترك جثته في العراء طعاماً للنسور والكواسر حتى أوشك في العراء طعاماً للنسور والكواسر حتى أوشك الحيوان البائس أن يباد بصورة كاملة . وهدد نوعه بالانقراض واحتج علماء البيئة ونبهوا الحكومة لذلك فوضعت قانوناً حرمت فيه صيد البيسون .
وبالقرب من تلك البطاح عاش حيوان آخر لم يهدده البشر بالانقراض وإنما هددته الطبيعة ، وهو الغزال البرّي بنوعيه الإيل ، والألك الكندي .. ففي شهر أيار من كل عام ترحل قطعان الغزال هذه في صفوف طويلة نحو الشمال( الذي يمتاز عموماً في كندا أو سيبيريا بالشتاء الطويل حيث الثلوج تكسو الأرض فتسقط الأوراق وتظلم الدنيا بأكملها وتتجمد غابات الصنوبر وتتحول المنطقة إلى مكان موحش مقبض لا تطاق فيه الحياة ) . أما في الصيف فمع عودة الدفء .. تذوب الثلوج وتتحرر الغابات من قيودها الباردة .. فيورق الشجر وتخضر الأغصان والحشائش لتصبح المنطقة فردوساً يختال بنضارته ، تتوجه نحوه جموع الغزلان الزاحفة .
وعندما تصل هذه الجموع إلى أطراف الغابات الشمالية هذه تتفرق الإناث عن الذكور لتضع كل أنثى حملها .. أما الذكور فتشحذ قرونها للمعركة الفاصلة مع بعضها . ( القرون تظهر عند الذكور فقط ولا تظهر عند الإناث)... وفي بداية شهر أيلول من نفس العام تبدأ المعارك بين الذكور ، من أجل الزوجات ، التي تبقى بمعزل عن هذه المعارك غير مبالية لأنها من نصيب الباقي على قيد الحياة … وتسقط ضحية أو ضحيتان نتيجة لعراك الغزالين الذكرين . فالأقوى يقضي على الأضعف يخزه بقرنيه فيبقر البطن أو يشق الرأس وأحياناً يسقط الاثنان أثناء الصراع حيث تتشابك القرون بفروعها المتعددة والصراع بين الذكرين على أشده ، والصراخ يعلو ويهبط .. قد يحدث أن يخترق قرن أحدهما عين الآخر فيقضي عليه في الحال .. ثم يحاول الحي تخليص نفسه ولكن قرنه يكون قد تشابك مع قرن خصمه الصريع فيقضي عليه الألم والجوع والضنى … وتغير الذكور قرونها كل عام ، لتنبت لها قرون جديدة .. وهذه القرون سبب تعاسة الغزال تمنعه عن الحركة وتعيقه ، تتشابك أحياناً مع أغصان الأشجار ، لتقضي على الحيوان بنفس الطريقة السابقة .. هذا الأمر هدد الغزلان بالانقراض ، على الرغم من أن قرونها في الوقت الحاضر أقل تعقيداً من قرون أجدادها في القديم .. تتزاوج الذكور الفائزة بالصراع مع الإناث ، وتكر راجعة .. وتقفر عندها الغابات لتعود إلى وحشتها وظلمتها وبرودتها .. فعوامل البيئة .. عموماً هي التي تكيف الحيوان لكي يتلاءم مع الظروف والمناخ . والطبيعة دوماً تسعى نحو الأفضل تنتقي وتميز وتصطفي لبقاء الأصلح..

مجلة الأدب العلمي  العدد السابع  بيئة المستقبل

0 comments: