Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

الخط العربي في الفن التشكيلي ...دوائر الإبداع العدد الثاني


عيد الدرويش

لا تتوقف مكانة الخط العربي في سلم الفنون العالمية فحسب ، بل يتفوق عليها في الكثير من الخصائص والسمات ، إن لم يكن فناً متفرداً في العالم، ويتذوقه حتى من لم يعرف القراءة العربية، وجعلت منه منبعاً ثرّاً  ينهل منه كل فنان ، وترتفع مكانة وقيمة أي لوحة تستعير مفرداتها من الحرف العربي ، في صياغات متعددة ومذاهب متنوعة ومدارس لها خصوصيات في الاقتراض من هذا الفن الجميل .
وإذا نظرنا للخط العربي بما امتازت به اللوحة الفنية، سواء في الشكل الإبداعي أو بالشكل الكلاسيكي هو بحد ذاته عالم آخر من الجمال والجلال، وهذا ما يشهد به الكثير من عباقرة الفنون العالمية ومتذوقيه، وبما يضفي المهابة والجلالة، وفي وصف الخط العربي يقول أحدهم: كلما كان مفتوح العيون، كثير الائتلاف، قليل الاختلاف، هشت إليه النفوس، واشتهته الأرواح، حتى الإنسان ليقرأهُ، ولو كان فيه كلام رديء، ويقول «أراغون » (لا يبقى على الفنان، إلا أن يتنحى بألوانه أمام الكتابة التي تزحف من اليمين إلى اليسار على جباه النوافذ، أو على تواريق العماد، حيث يخط القلم على البياض حرفاً فاحماً أسود شبيهاً بكوكبة فرسان في عباب الصحراء، وثاب الرشاقة كسيوف مسلولة كل حرف)(1).
فالفنان المسلم كرَّس كل جهده، وطاقاته الفنية والجمالية للخط، وإخراجه بما يبعث بالهيبة والقداسة، وأعطاها بكل ما يستطيع عن تكوينات زخرفية وخطوط لينة، في الخط الديواني والفارسي والثلث والكوفي، وترسم الزخارف والأشكال ضمن الفراغات، وتأخذ التكرارية في الوحدة الزخرفية، عندما انبرى الفنان المسلم في إبداع فن مرموق ذي مكانة رفيعة، وبقي متفرداً في هذه الخصوصية قديماً وحديثاً على مستويات الفن العالمي، ويعد الخط العربي فلسفة متكاملة العناصر بتنوع الأساليب الفنية فيه، مما يدل على عظمته وقدرة الفنان العربي على الإبداع في صيغ وأشكال متنوعة. وعندما امتزج الحرف العربي بين الجمال والقدسية في لوحات متنوعة ومختلفة الأشكال تتعشق فيها الحروف مع الزخرفة في تراكيب هندسية ونباتية وحيوانية، في ايقاعات موسيقية تسّرُ القلوب وتهفو إليها الأفئدة، ويأخذ فيها اللون مساحة تضفي على الحروف منحنيات وأشكال وزخارف أخرى، في هندسة روحانية متداخلة، تضمن تعابير جمالية رائعة وللكلمة مكانها في تركيبها اللغوي والليونة في الزخرفة، ومطواعة ولينة في يد الخطاط، كما استذوقته الشعوب الأخرى، التي أضافت اسهامات جليلة في مسيرة تطور الخط العربي، ليغدو ركيزة أساسية في ثقافتنا العربية، وحاملاً من الحوامل الأساسية لحضارتنا المشرقة التي نعتز بها كأمة عربية ومسلمة، ورسالة متفردة في الخصوصية والتنوع، ومنها هذا الفن الرفيع. كما يروي «غوستاف لوبون » في كتابه «حضارة العرب » (للخط العربي شأن كبير في الزخرفة، فهو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم نجد في الزخرفة حتى القرن التاسع الميلادي غير الخط الكوفي ومشتقاته، كالقيرواني والكوفي القائم الزوايا، وأكثر هذه الكتابات استعمالاً هو السطر الأول من القرآن الكريم، وهو «بسم الله الرحمن الرحيم » وإن كل بلد خفقت فوقه راية الرسول (ص) ازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيما ازدهار)(2). إن الكثير من الكتاب والباحثين من أمم وشعوب مختلفة يدلون بآرائهم عن الفنون وعلم الجمال، وما للخط العربي من صيغة متفردة في سفر الفنون، وهذا «أرنولد توينبي » يقول (لقد انطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن غازياً ومعلماً مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة والبعيدة، وأينما حلَّ أباد خطوط الأمم المغلوبة(3). لقد امتاز الخط العربي بالوضوح ويتطرق المستشرق «رير » (إن الكتابة العربية أسهل كتابات الدنيا وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل، وتوضيح الواضح)(4). وإذا كانت عناصر الفن التشكيلي لا تخلو من الخط والمساحة واللون والظل والنور والسطوح والفراغ، وتلك السمات والخصائص قد وجدت في الخط العربي جلَّ غايتها ساعد على ذلك يد الفنان العربي المبدع في الحرف العربي، فقد كان خلاَّقاً في التوصل إلى حدود لا يمكن أن تصل إليها كل خطوط اللوحات الأخرى. نعم إنها فلسفة وجدانية في انسيابات لتلك الأحرف فينقلك الفنان من عالم المحسوس إلى عالم مجرد، وقد لا يشبه هذا العالم أو يمت إليه بصلة، وهذا ما يشكل راحة نفسية للناظرين إلى من ينظر إلى اللوحة الفنية، وتقف أمامها متأملاً وتنتقل من فراغ إلى مساحة ولون وخطوط، وتطربك ألوانها وانسياب الحروف بكل اطمئنان وتنقلك إلى عالم فيه تشكيلات وصياغات وتصاميم، وأبعاد هندسية، وتنبعث منها الذائقة الفنية في لغة مكثفة وسلسة، وتجد فيها المتعة الفنية، وتعيد لنفسك ذلك التوازن العاطفي ومفردات عالم الجمال. لقد تماهى الخط العربي في اللوحة التشكيلية حاملاً عنصر الزخرفة، والتي تجمع بين مفردات الحروف أحياناً، ومشبعة بالتشكيلات الحروفية بأساليب زخرفية نباتية أو هندسية، وللزخرفة العربية مكانة متقدمة أيضاً في المجالات الفنية التي تعبر هي الأخرى عن فلسفة فنية وجمالية لا تقل أهمية عن عناصر اللوحة التشكيلية، خطّها قلم الفنان العربي المسلم عندما فاضت مشاعره في تولّه وقدسية فاض بها الحرف العربي، التي استمدها من القرآن الكريم. والخط العربي تفرد به الفن العربي الإسلامي، وذاع صيته وأخذ هوية عربية وإسلامية، فضاً عن مكانته في سمات الحضارة والتراث العربي، وقد تذوق هذا الفن البديع من الأمم والحضارات الأخرى وساهموا إلى حد كبير في ابداعاتهم الفنية والجمالية وفي تطوير أنواع الخط العربي، وهذا يدل على تقبل الشعوب الأخرى مفردات الحضارة العربية الإسلامية، لقد أضافت اللوحة الفنية للخط العربي لوناً جديداً في الفن التشكيلي، وبما تمتاز به من جمالية حروفها اللينة كالخط الديواني والريحاني وخط الاجازة، أو الحروف المستقيمة في الخط الكوفي وفي أشكال متعددة، إنه فن عالمي بحد ذاته بخصوصية عربية خالصة، وإن دلَّ على شيء فإنما يدل على قدرة الفنان العربي في رسم وجمالية الحرف العربي وقواعده، التي فاقت كل تصور، وبقي متفرداً بها عن كل الخطوط في هذا العالم، كما شكلت اللوحة الفنية حاملاً لمضمون التراث والحضارة العربية، وقد سبق حتى اللوحة التجريدية التي ظهرت مدارسها في بداية القرن العشرين، فالخط قد سبق اللوحة التجريدية من حيث الشكل والمضمون، وبما احتوته من تفاصيل تجريدية وبفضاءات متعددة، طغت عليها الجمالية في هندسة روحانية بآلة جسمانية. لقد وجد الفنان المسلم ضالته في الحرف العربي ليشكل منه عوضاً عن الرسم والتجسيم مساحة كبيرة، ويعرض كل طاقاته الفنية والإبداعية ليشكل منه لوحة فنية معبرة في رسوم وأشكال مستخدماً العنصر الأساسي هو الحرف العربي، ونجدها لينة ومطواعة في يد الفنان، ويقول أحد المستشرقين: إن الخطاط يتحكم في الأحرف التي يكتبها تماماً كما يتحكم الموسيقي في أحاسيسه وهو يصوغ نغماً بذاته. ويذكر الصولي: أن سليمان بن وهب كتب كتاباً إلى ملك الروم في أيام الخليفة العباسي المعتمد، فقال ملك الروم: ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وأحسُدهم على شيء حسدي على جمال حروفهم، وكان ملك الروم لا يقرأ الخط العربي، وإنما يتذوق تلك الجماليات لهذا الفن الجميل. وصفوة القول بأن الخط العربي قد شغل حيزاً كبراً في مجال الفنون العالمية، لما فيه من تفرد وسحر في الشكل، وما يتضمنه من تراكيب قد تناولها الكثير من النقاد والكتاب، في غنى الموروث أولاُ، ولقدسية الحروف ثانياً، وتجليات معانيه، وموسيقى تكويناته ومضامينه المتعددة، ومن هذه تعددت الدراسات والآراء والرسائل، التي تعمل جاهدة على الإحاطة بكل أسراره، ولكن كلما زادت هذه الدراسات نكتشف العجز في الإحاطة بكل تلك الأسرار والسحر العجيب الذي يتضح يوماً بعد يوم، كما يتنامى الشكل الفني للخط العربي في تراكيب جديدة ومستولدة من ذلك الإرث العظيم لهذا التراث الكبير والغني بكل أشكاله وألوانه.

مجلة دوائر الإبداع العدد الثاني  من التراث







0 comments: