Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

الفارس ....الأدب العلمي العدد الأول


لينا الكيلاني

لم أكن تائهة ...لم أكن ضائعة ..بل أنا من اقتحمت تلك الصحراء ..صحراء شاسعة تمتد حتى حدود الأفق.. مكان خرافي لا يقف في وجه اتساعه شيء ..وليس فيه أكثر من قبة السماء صافية الزرقة ..وحبات من رمال متناهية في الصغر ونعومة الملمس تبدأ بواحدة ولا تنتهي عند مليارات الأصفار إلى جانب الرقم (واحد) ..
وأنا.. مَنْ أنا؟.. لست أكثر من كائن متحرك صغير فوق سطح شاسع لا تبين له حدود.. أرض منبسطة بلون الذهب ووهج الشمس.. خالية إلا من بعض كثبان الرمال التي تتسامق في نهوض مبرر فوق باقي الرمال الناعمة وهي تشكل منظراً بديعاً أخاذاً لكنه لا يصنع سراباً.. إذن فلأعترف أنني فوق أرض أكثر واقعية من أن يتشكل السراب فوقها.. أرض حقيقية لا مكان فيها لخداع البصر أو الأوهام. ولكن.. أما من كائن حي آخر هنا غيري؟.. لا.. لابد أن هناك حياةً تضج في هذه الأرجاء إلا أنني لا أراها أو أشعر بها.. فما من مكان فوق هذا الكوكب السعيد أو التعيس إلا وفيه حياة من نوع ما.
وأوغل في صحرائي الأسطورية هذه.. أتمنى أن أعثر على وجود آخر يتحرك مثلي عدا تلك الرمال التي أخذت تسابقني في تشكيلات لها تنبثق أمامي فجأة لتختفي فجأة أيضاً وكأنها تداعبني، أو أنها تحاول استرضائي للبقاء هنا بينما هي تجتذبني الى مناطق أكثر عمقاً.. تسحبني وراءها وكأنها تلهو معي فأسبقها حيناً،وتسبقني أحياناً. عندما أرهقتني أضواء المدينة الكبيرة التي كنت أعيش فيها قالوا لي: اذهبي الى تلك البقعة البعيدة.. أعيدي اكتشافها فمنذ أزمان وأزمان لم يعد يؤوي إليها أحد.. إنها أرض منسية.. هجرها الناس.. وأسقطوها من كتب تاريخهم. يقولون إنها أصبحت أرضاً للجان والأطياف وليس فيها أكثر من الرمال. قالوا لي: أعيدي اكتشاف ذاتك.. وانتظري حتى تعثري على كل الإجابات.. أو تعثري على السلام. يزداد حضور المكان كثافة وهو يلفني من كل جانب.. ويبهت ضوء النهار وهو يمهد لسطوع القمر أو تسلل الليل.. فأعثر على الوحشة والوحدة في عالم متحول بين ضوء وظلام.. وليل ونهار.. ماذا أفعل؟ وأين أذهب؟ بل ما هو مبرر وجودي هنا؟.. أسئلة تحاصرني من كل اتجاه فلا أعرف لي أي اتجاه. لا.. رغم هذا لا أريد أن أعود من حيث أتيت.. صحيح أن عالمي الذي جئت منه يموج بالأضواء والأصوات الى حد الصخب بينما هنا السكون تام وكامل لا ينفتح على أي صوت حتى للريح التي تتنقل من دون همس وكأنها تقدس الصمت فلا تجترحه.
مدينتي.. جميلة وآسرة.. تتفتح كزهرة لوتس على ضفاف نهر عظيم خالد على مر الأزمان.. كان.. وظل.. وسيبقى متدفقاً الى أن تتوقف الدهور.. ولكني لا أستطيع أن أعود إليها قبل أن أقبض على أجوبة لأسئلتي. أسئلة بسيطة.. وربما وقعت في السذاجة.. لكن العثور على جواب عريض لها ربما يقع هو الآخر في دائرة المستحيل. هل تصدقون أنني أبحث في هذه الصحراء مترامية الأطراف عن جواب لسؤال بسيط بسيط: أين يختبئ النقاء في هذه المدينة وهي تغيب وراء سحابة من التلوث؟.. تلوث أصبح يطارد الهواء والماء والشجر.. والنفوس أيضاً! هل من فارس يتطوع لأن يعيد اكتشاف حاراتها وأزقتها فيتماهى مع وجوه أناسها الذين تسحبهم دوائر أقدارهم في تصادمٍ أو تلاقٍ؟.. ما أشد سذاجتي وأنا ألقي بأسئلتي في أرض تحرقها شمس النهار.. ولا يطفئ لهيبها ندى الصباح. أظنني سأعود.. ودون العثور على أي شيء.. لأغيب مع الآخرين في دوائر الأقدار أو دوائر السؤال. ولكن ألن أنتظر حتى تكتمل إشراقة هذا اليوم الجديد؟ وأتسمر في مكاني فجأة وأنا ألمح من بعيد شبحاً يتحرك باتجاهي.. فينبض قلبي رهبة وفرحاً بآن معاً.. فالحياة إذن موجودة في هذا المكان. وأتذكر أنهم قالوا لي بأنها أرض منسية مزروعة بالجان.. فأجفل.. وأتراجع خطوات الى الوراء كمن يحاول الهرب من مفاجأة لا يريدها.  مَنْ أنتِ أيتها النجمة.. هل سقطتِ من السماء.. أم نبتِّ من روح هذه الأرض؟ جاءني سؤاله مباغتاً وهو ينبع أمامي كما لم أكن أتوقع.. فألوذ بصمت المفاجأة وأنا استغرب وجود هذا الفارس المهيب فوق جواده.. والمكان مقفر من سواه. بل أنتَ.. مَنْ أنتَ؟ ومن أين أتيت؟.. أيام طوال جلت في هذه الصحراء وما التقيت فيها نبض حياة.. فكيف إذن تنبثق هكذا أمامي وأنا ألمح شبحك من بعيد؟! وتدوي ضحكته من وراء ابتسامة مشرقة تتزامن مع إشراقة أول خيوط الشمس: ألم يحدّثك أحد عني؟.. أو جاء على وصفي؟
وأجيب ببراءة: لا.. قالوا لي إن الناس هجروا هذه البقعة ونسوها منذ دهور.
يترجل عن جواده الذي تركته سائباً، ويتقدم نحوي وهو يبسط كفاً تدعو يدي لأن تسقط فيها، أو أن أتبع صاحبها. أتلفت فلا أرى جواده.. أين تراه سيختفي والمشهد ينبسط أمامنا كاملاً؟.. هل انشقت الأرض وابتلعته؟.. وكيف سأتبع هذا الفارس الغريب في هذه القفار؟.. والى أين سيصل بي؟ أكاد لا ألمح أي معلم نخطو باتجاهه!! لم تعد الصحراء هي التي تلفني من كل ناحية وإنما غرابة الموقف ذاته. وفجأة.. وهكذا دون مقدمات.. أجد نفسي مع الفارس، وعلى بعد بضعة خطوات من مكان لقائنا، في مواجهة مدينة تصعد من أعماق رمال الصحراء.. مشهد ليس بالمألوف.. وأمر ليس بالمعقول.
- هذه الصحراء وإن بدت منسية.. وخالية.. إلا أنها ما تزال تحتضن في أعماقها هذه المدينة العامرة.. انظري إليها كيف تبرق وهي تستحم بوهج الشمس.. انظري إليها كيف تنبت من رحم الرمال.. إنها المدينة التي تشرق مع كل شمس وتهدأ مع كل ليل.
إجابة سريعة لا تخلو من الغموض قالها الفارس بثقة جعلتني أحوّل نظراتي المتسائلة باتجاهه، وكمن يقول: وأنتَ.. مَنْ أنتَ أيها الفارس الذي تقف أمامي مثل رمح؟!
- أما أنا..
وأسأل بلهفة:
- أجل.. مَنْ أنتَ؟
-أنا فارس هذه المدينة.. وحامل كل مفاتيحها وأسرارها.
تبرق عيناي بانبهار فيضيف:
 -هل جئتِ تحملين أسئلتك؟!.. كثيرون غيرك فعلوا.. ولكنهم لم يصلوا الى حيث أنتِ الآن.
ينعقد لساني رهبة وطمعاً في أن أعود بجعبة تحمل الجواب دون السؤال، فيباغتني بدفعة قوية من يده وإذا كلانا في قلب المدينة.. وما إن تقع عيني على تفاصيلها حتى أقول:
- هذه مدينة منظمة كما تبدو.. وهي تذكّرني بأقدم مدينة على الأرض وقد نظموا كل مهنها في أقسام مخصصة لها.. انظر فهذا زقاق للرسوم واللوحات.. وهذه حارة تزخر بكتب قديمة.. وهذا شارع ارتصف بالكتب الحديثة.. وهناك بناء يضم مئات الآلات والأدوات.. استغرب هذا كله!!
 -لا تستغربي.. فهذه هي الأمجاد.. وأنا حارسها ومَنْ يقوم على رعايتها.
وأسأله وأنا استذكر كلمات آخر من تركتهم على أبواب المدينة التي جئت منها:
-لابد أنك.. الماجد.. ماجد.. أجل.. إنك هو.. لقد حدثوني عنك..
يضحك ويقول:
 -وقالوا لك إنني أصنع الحروف وأصوغ منها الكلمات.. بل قالوا لك إنني أملك كتب التاريخ أفتحها وأطويها.. وأخرج من جوفها تاريخاً جديداً.
أقول بعد أن استحوذ عليّ هذا الماجد:
 -هذا صحيح.. ولكنهم قالوا لي أيضاً كلاماً آخر كثيراً عنك.
 -لا يهم الآن ما يقال.. المهم أن تعودي بجواب لكل سؤال.
وأسأل بالتوق الى المعرفة:
-وكيف السبيل الى هذا؟
فيجيبني:
 -اتبعي خطواتي وأنا أتنقل بين الزوايا والأرجاء وهي التي ستدلك أو تأخذك الى حيث الرجاء.
وبعد أن توغلت في المدينة.. وأنا اتبع الماجد الفارس رحت ألملم بدايات الإجابات عن بعض التساؤلات.. فالعراقة موجودة هنا في هذا المكان.. والتاريخ الناصع يقبع هناك في تلك الزاوية.. وشواهد الأمجاد تقف قريباً من أسوار المدينة.. والمخترعات والاكتشافات تصطف فوق أرفف عريضة.. وهنا.. وهناك.. وفي كل زاوية جواب.. أجوبة كثيرة أظن أنها تعيد الاكتشاف.. وتعطي مفاتيح تغلق دونها أبواب التلوث في العقول كما في السلوك. فرحة كنت سأعود.. لكن الفارس استوقفني.. فما أحمله في رحلة العودة كإرث ثقيل لن أستطيع العودة به ما لم تباركه يد (ماجد).. قال لي:
- اتبعيني من جديد.. وسوف أخطف لك طيفاً من كل لون.. وكلمة من كل كتاب.. ومَعلماً من كل أثر.. عند ذلك لن تعود جعبتك ثقيلة.. وسوف تستطيعين حملها فتنطلقين بها خفيفة.
وافقته.. وأخذت أتبع خطواته بينما انطلق هو خفيفاً واثقاً ومتحرراً. خطوة في إثر خطوة كنت أتبعه.. وإذا به ينحرف تارة يميناً واخرى شمالاً، وأنا لا أستطيع مواكبته.. وبسرعة كبيرة أصبحت أراه تارة هنا وأخرى هناك. وأصرخ به:
- يا ماجد.. أيها الفارس ماذا تفعل؟.. لماذا تقلّب الخطى وتغير الاتجاهات.. لماذا تعبث معي.. أين وعود الفرسان؟ لقد جئتك من عالمي أبحث عن فارس.. فما الذي تفعله الآن؟ ويعلو صوتي في أرجاء الصحراء، ويضطرب (ماجد) في خطواته، ويكاد أن يتعثر، والحيرة والدهشة تأخذني في متابعته. يا للخيبة إذن.. لقد تبدل الفرسان.. ليس لي بعد هذا إلا أن أترك أسئلة جديدة هنا.. وأعود من حيث أتيت فأهادن التلوث.. وأعتاد على مصاحبة أسئلة ليس لها من جواب. لكن صوتاً قوياً كالرعد خرج من تحت الأرض.. باغتني بجواب كان يطغى على كل الأسئلة: الفارس لم يزل فارساً.. وماجد لا يغادر الأمجاد.. لكنه ماذا يفعل إذا كان يسير فوق أرض متحركة؟؟!!

مجلة الأدب العلمي العدد الأول  ملف الإبداع

0 comments: