Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

جريمة على كوكب فيتغار*....الأدب العلمي العدد التاسع عشر


جويل واتشمان**
ترجمة توفيق السهلي

أفاق نيك باتيرسون صبيحة يوم ثلاثاء حين كانت أشعة الضوء المائلة للحمرة لكوكب فيتغار ذي الشمسين تتسلل عبر الستائر الرقيقة المنسدلة على الشقة التي كان ينزل فيها على هذا الكوكب الذي يزوره لأغراض تجارية .  لدى نهوضه وجلوسه على الأريكة سقطت مفاتيحه وعلبة شراب فارغة من على حجره نحو الأرض. فرك عينيه ونظر حوله. كانت الشقة جيدة التأثيث. كرسي وثير في إحدى الزوايا، قطع من النسيج المخرَّم تغطي كل الأماكن المناسبة ومعطفه المستهلك المحبوك من نسيج صوفي خشن متعدد الألوان كان يتدلى من أحد أطرافه المعلقة على أحد ذراعي الكرسي. ومن فوق كانت الكتب تصطف على الجدران المواجهة للأريكة مانحة المأوى للعديد من الكتَّاب المشهورين: ميلتون، جيمس، بو، فون نيغت( vonnegut ) أما بقية الجدران فكانت مزدانة بقطع فنية متنوعة لم يتعرف باتيرسون منها إلاَّ على صورة بالأبيض والأسود محفورة على الحجر من نحت الفنان إيشر ( Escher ) تظهر زوجاً من اليدين ترسمان نفسيهما. لم يحمله المكان على التفكير في مكان آخر بعينه، لكنه وجد فيه شيئاً مألوفاً، جعله لأول مرة منذ أعوام طويلة يشعر أنه في بيته. وعندما نهض ليجهز كوباً من القهوة ذكَّره المنظر في المطبخ بالإخفاق الذريع البائس الذي حاق به الليلة السابقة. لقد كان الروبوت المفكك إلى عشرات الأجزاء التي تناثرت على جميع سطح طاولة المطبخ، فجذعه المعدني الضخم كان مستنداً إلى الجدار بينما كانت أطرافه وداراته مرمية على سطح الطاولة كقطع شطرنج كثيرة في لعبة لعبها اثنان من الهواة. ومن تحتِ كومةِ الأسلاك والخراطيم في إحدى الزوايا نتأتْ كأسٌ من القهوة البائتة وعلبة فيها فتات من الفستق. وفي وسط الفوضى كان هناك صندوق أسود وحيد تزينه الأنابيب الزجاجية والمعدنية والأشلاء. كان ذلك الصندوق محاطاً من جميع الجهات بأدوات فحص الكترونية غريبة. فيما مضى، كان هذا الشيء ذات مرة مركز التحكم بحركة الرجل الآلي. أمَّا الآن فقد أضحى مجرد صندوق.
جلس باتيرسون إلى الطاولة وضم ذراعيه حول الفوضى التي كان قد سببها. الروبوت هارلي فلوندي كان قد استقبله لدى دخوله الشقة بمصافحة حارة وبتقديم بشوش ودود لنفسه على أنه خادمه الخاص. ولمَّا شعر باتيرسون أنه لم تكن به حاجة إلى خادم خاص ولا إلى رفيق آليّ فقد أبعد هارلي بتهذيب على قدر ما يستطيع. لكن الروبوت ظل على إلحاحه وجلب لباتيرسون طبقاً من المقبِّلات. ورفض باتيرسون مرة أخرى ودفع بلطف الطبق والروبوت بعيداً عنه. «انظر. أنا لست بحاجة إليك » قال باتيرسون. «أرجوك اذهب وأطفئ نفسك. »
«أنا لا أنطفئ يا سيدي باتيرسون » ردّ عليه هارلي. «أنا هنا لأعمل على خدمتك إنْ لم تكن تحتاجني الآن فسوف أنتظر في غرفتي. »
- أنا لا أحتاج أي شيء الآن، ولن أحتاج أي شيء أبداً منك أثناء وجودي هنا.
-أرجوك سيد باتيرسون » اتخذ الروبوت نبرة تنم عن التواضع واللين «أعرفُ أنَّ عاداتنا غير مألوفة بالنسبة لكم، لكنَّ ذلك لا يمنحك أي عذر لتتصرَّف بغير تهذيب. لقد فعلنا ما بوسعنا لنجعل إقامتك هنا مريحة. رجاء لا تردّ المعروف بالوقاحة. »
لم يحسب باتيرسون أنه كان يتصرف بفظاظة، وبالرغم من كل هذا فقد كان يعرف أنه لا يمكن أن يكون وقحاً مع آلة. ولمَّا بدا أن الروبوت لم يكن ليصغي لتعليماته فقد توجه إليه وبدأ يبحث عن زر تشغيله وإيقافه.
«سيد باتيرسون ماذا تفعل!؟ »
«سوف أطفئك »
«لا تكن سخيفاً » أجاب الرجل الآلي بصوت جافل «أنا لا أنطفئ مثلك تماماً. أرجوك لا تلمسني. »
«ماذا تعني أنك لا تنطفئ؟ كل رجل آلي له زر إيقاف! »
«من الواضح أنك لا تفهم. «بدا صوت الروبوت ساخطاً... ربما لديكم مخلوقات مشابهة على كوكبكم يا سيد باتيرسون، قد تكون مجرد هياكل ضخمة غير واعية مركبة من الصفيح. لكني أؤكد لك بأنني أشعر وأحسّ مثلك. وهنا نكص هارلي مرتداً عن أصابع باتيرسون وأخذ يصيح «أرجوك لا تلمسني . »
رفع باتيرسون قميص الروبوت فوجد برغياً واحداً في وسط جذعه. إطار هارلي المعدني كان مغطى بمادة اصطناعية لزجة تحافظ على دفئها بفضل نظام تدفئة داخلي. كان ملمسه أبعد ما يكون عن ملمس الجلد. «سوف أجلب مفكاً للبراغي .» وهنا وقد دبّ فيه الذعر بدأ هارلي يصرخ «لن تجلب مفكاً ولا أي أداة أخرى إذا واصلت يا سيد باتيرسون فسوف اضطر لاستدعاء السلطات...
ورجع باتيرسون من غرفة نومه وقد أحضر بيده مفكاً للبراغي واتجه نحو الروبوت. وأخذ باتيرسون يلِوح بالمفك مهدداً «أتعلم، حيث جئتُ توقفوا بشكل كامل تقريباً عن إنتاج الصنف الأدنى من سلسلة الرجال الآليين فقد وجدنا أننا لسنا بحاجة إليهم على الإطلاق. الآن، إذا سألتني، كنت أفضِّل أن أنطفئ بهدوء وبسرعة على أن أصدأ مع مرور الزمن. إنها طريقة لتذهب بشكل أكثر تكريماً واحتراماً، ألا تظنُّ ذلك؟ »
تراجع فلوندي في إحدى الزوايا وهو يرتجف. تقدم باتيرسون نحوه وتمكَّن من الإمساك بياقة قميص الرجل الآلي. حاول جاهداً أن يثبّت الروبوت ويمنعه عن الحركة وذلك حتى يتمكن من اتخاذ الوضعية المناسبة لوضع المفك في البرغي الموجود في بطنه. وفي خضم العراك كانت ذراعا الرجل الآلي تتخبطان في الهواء في كل الاتجاهات فيما أخذ يصرخ بصوت أرستقراطي مُجْهد: «النجدة توقف عن ذلك في الحال » وفي لحظة من اللحظات، ولم يتمكن باتيرسون من أن يتذكر تماماً كيف حدث ذلك، انغرز مفك البراغي في الجلد الاصطناعي للرجل الآلي محدثاً صليلاً مثيراً للقشعريرة ووصل إلى جزء ما في أعماق جسم الآلي، وهو ما جعل هارلي فلوندي في تلك اللحظة يتوقف عن الحركة.. وإلى الأبد.
وقف باتيرسون مشدوهاً دون حراك لدقيقة ثم تمتم قائلاً: «آوه اللعنة »
عرف أنه قد كسر شيئاً حساساً داخل الخادم الآلي الذي أضحى فجأة جثة هامدة  لقد قام بسحب الهيكل الساكن إلى المطبخ ورفعه ليضعه فوق الطاولة. لقد كان مفك البراغي مغروزاً في صدر الرجل الآلي بينما انبجس من فتحة المقتل سائلٌ صافٍ ذو رائحة. وكان أن شرع باتيرسون على الفور في مسعاه العقيم لإصلاح الشيء. لقد كان ذلك قبل ست ساعات وغفوة طويلة.
وبعد تردد وقف باتيرسون جاعلاً الطاولة خلفه ومدَّ ذراعه ليغطِّي أجزاء الآلي المبعثرة، ولمسَ بالكاد شاشة الفيديو المعلقة على الحائط. لم تكن به رغبة بالفعل في إخبار أي شخص عما فعل لقد كان ذلك مبعثاً على قدر هائل من الإحراج. بيد أن ضميره كان يؤنِّبه، فهو لم يكن ذلك النوع من الأشخاص الذين يكسرون الأشياء في غرف الفندق، حتى إنه لم يسبق له أن سرق منشفة. ودبّت الحياة في شاشة الفيديو التي امتلأت بالألوان والرموز. ثم ظهر وجه شريكه في الأعمال التجارية وكان يبتسم ببشاشة.
«أهلاً يا صديقي » قال الوجه. كان سوفهافن يرتدي العمامة التقليدية وثوباً فضفاضاً مناسباً للجسم من ذاك المميز لشعبه. وخلفه كان بمقدور باتيرسون أن يشاهد تفاصيل محتويات منزله المروعة المميزة لسكان كوكب فيتغار.
«ماذا يمكنني فعله من أجلك هذا المساء؟ »
«مرحباً سوفهافن. أظن أنني بحاجة لبعض المساعدة. لم يكن باتيرسون على يقين من ردة فعل شريكه التجاري عندما يخبره بأنه كان قد فكك جزءاً من حفلة الترحيب الخاصة به. ومع ذلك، فقد كان هذا الرجل الشخص الوحيد الذي يعرفه بما يكفي ليتصل به. »
«لقد واجهت بعض المشاكل مع خادمي الشخصي الآلي.. أم م م... هارلي »
«مشاكل؟ أي نوع من المشاكل؟ »
«لا أستطيع إعادة تجميع أجزائه معاً. .»
وهنا أمتقع وجه سوفهافن، وتوسعت عيناه، وارتخى حنكه وحلت حملقة اندهاش بلهاء مكان ابتسامته الدبلوماسية شبه الحميمة.
«أنت.. ماذا؟.»
«حسناً، كما ترى » بدأ باتيرسون يتكلم متلعثماً بكلامه. كان يتلعثم دائماً كلما كان يحسّ بأنه في ورطة. وكان على يقين الآن من أنه ارتكبَ عملاً منافياً للعرف الاجتماعي في هذا المكان. وكان أمله الوحيد أن ينتقص سوفهافن من شأنه باعتباره سائحاً جاهلاً... (لم أرغب أن.. أن.. أح.. أحطمه... أردت فقط أن أطفئه لبعض الوقت. ثم اند... اندفع نحوي فجأة وكان بيدي مفك للبراغي.. غي.. لذا أنا... »
«لا تتحرك. سآتي إليك حالاً. اختفى سوفهافن وأصبحت شاشة الفيديو خالية.
وهنا خرَّ بيترسون جالساً على أحد الكراسي الموجودة في المطبخ وبعد عشرين دقيقة قرع جرس الباب وسار باتيرسون أمام سوفهافن باتجاه المطبخ.
«سيئ. سيئ جداً »، كانت نبرة صوت سوفهافن تتسَّم بشيء من الحدّة أشبه بالرنين المعدني وهو ما لم يَرُقْ لباتيرسون على الإطلاق.
«هل بوسعك مساعدتي لإعادة تركيبه؟»
«لا .»
«لكنّي متأكد بأنه مع بضع الأ.. الأجزاء الاحتياطية سيكون ج.. جيداً كما لو كان جديداً. »
«هذا سيئ جداً. لا يمكن إصلاحه. »
سوفهافن، الذي كان يقف متصلباً عند المدخل تقدَّم نحو الأمام باتجاه المطبخ. ارتعش فزعاً ثم توقف. وبعدها ارتسمت على وجهه أمارات الصرامة.
«انظر » تابع سوفهافن. «أخشى أنه لا يمكننا أن نقدم لك محامياً في هذه القضية. يمكنك أن تتصل بقنصليتك إن رغبت، لكني لست متأكداً من أنهم سيكونون قادرين على مساعدتك أيضاً.
«محامٍ؟ قضية؟ ماذا، هل ستقوم بمقاضاتي؟ »
التفت سوفهافن نحو الزائر المشدوه غير المصدق لما يجري. لقد تغيرت طريقة تصرفه بشكل كامل.. حركاته ما عادت سلسة ودبلوماسية. كانت متصلَّبة ومحددة. وكانت لهجته لا تزال رسمية، لكن نبرتها أصبحت مرعبة.
«لا يا سيدي. » قال دون أن يرمش. «سوف نتهمك بارتكاب جريمة قتل. » وبهذه الكلمات اختتم كلامه ومشى نحو الخارج. في اليوم التالي جلس نيكولاس آر باتيرسون مذهولاً ذليلاً في وسط قاعة السلطات الفيتغارية الضخمة ذات السقف المقبب. مئات الفيتغاريين كانوا يمرون بالجوار مسرعين حاملين أوراقهم مهرولين جيئة وذهاباً ويتجاذبون أطراف الكلام فيما بينهم وبين حين لآن كان يخاطبه أحدهم من وسط القاعة فترددت أصداء اسمه المثير للحرج بصورة بدا أنها لا نهائية بين جنبات القاعة الحجرية ونوافذها ذات الزجاج الملوّن، أو يأتيه أحدهم حيث يجلس في محبسه الدائري على كرسي ذي ظهر مستقيم يحيط به حارسان مسلحان، ليهمس في أذنه عن قرب ويقول له: «الاسم؟ الفيزا؟ طلب الدفاع طلب الدفاع »، شعر باتيرسون بإحساس من الاستياء والسخط يتملكه. لقد زار الأرض حيث تعتبر جريمة القتل بالكاد ذنباً يعاقب عليه، كما زار كوكب بينينغتون حيث الجميع نباتيون، وزار المستعمرة 4 حيث لا يوجد إلا ستة من البشر بالكاد يحسون ويشعرون كما البشر يشربون على كوكب بأكمله من الآلات تمخض ستة عشر مليون طن مكعب من رقاقات البطاطا الاصطناعية يومياً لتطعم الجوعى في المجرة. ولم يسبق له قط أن صادف جنساً من الناس الذين يعتبرون تفكيك رجل آلي جريمة. وفي آخر المطاف عم الهدوء القاعة مع سكون معمعة الاشخاص والأوراق حيث جلس هؤلاء في مقاعدهم المخصصة وأوت الأوراق في حقائبها مثلما تسقط أوراق الشجر لتشكل كومة صغيرة متناسقة. ألقى باتيرسون نظرات التفحص الفضولية في أرجاء القاعة حيث كان العديد من الطاولات الخشبية الثقيلة وهو يبحث عن وجه مألوف. لم يكن سوفهافن موجوداً في القاعة.. وتحولت أنظار الجميع نحو المِنَصَّة الضخمة في إحدى زوايا القاعة. كانت موضوعة في مكان أعلى من بقية الطاولات وكانت هناك درجتان أو ثلاث درجات تؤدي إلى المنصة الصغيرة. فتح أحد الأبواب وأخذ أحد هؤلاء الفيتغاريين يصعد الدرجات وهو مرتدٍ حلته الطريفة لغرابتها. حسب باتيرسون أن ذلك الشخص هو القاضي. كان يرتدي عمامة ملونة مزينة بريش طائر محلي نادر. وفوق ثوبه باهظ الثمن tripterous herddrees ذي اللون الأزرق الملكي كان يرتدي غطاءً أطرافه من الفرو يصل من كتفيه حتى الأرض. وبينما كان يصعد المنصة حدَج باتيرسون بنظرة مرعبة. وخلط القاضي بعض الأوراق وأوكأ ظهره على مسند مقعده وتنحنح قليلاً: «هلاَّ تقدم المدّعي نحو المنصة .» ومرة أخرى طغى شعور عام بالإثارة أرجاء القاعة بينما أخذت الأيادي تعيد ترتيب مئات الأوراق وتعالت همهمات هيئة المحكمة الذين كانوا يتمتمون بصوت منخفض. وفتح باب وراء المنصة حيث كان يجلس القاضي. الرجل الذي دخل منه إلى القاعة كان سوفهافن. مرّ بجانب المحبس الذي كان يجلس فيه باتيرسون لكنه لم ينظر إليه. جلس إلى مقعد وإلى جانبه ثلاثة رجال وقال: «أنا جاهز .»
أراد باتيرسون الوصول إلى سوفهافن. أراد منه أن يتخلى عن القضية برمتها، أن يقول له إن كل ذلك في الواقع ليس إلاّ مزحة. وتساءل باتيرسون، هل كان سوفهافن يحاول أن يتبين إلى أي حد يمكنه أن يضغط عليه قبل أن يصيح: «يا عمّ؟ ». لكن سوفهافن اكتفى بالجلوس إلى مقعده يقلِّب أوراقه ويبدو أشبه بخصم مرعب في هذه المعركة القضائية الحقيقية أكثر من اللازم. قال القاضي: «قل حجّتك أيها المدّعي » ووقف سوفهافن. نظر نحو الأسفل إلى مقعده. وأخذ نفساً عميقاً وبدأ الكلام «سيد باتيرسون » يبدو أنه عليك أن تتعلم الكثير من الأمور عن الحياة. لا أقصد عن حياتك فقط التي هي عبارة عن مجموعة صغيرة من الأخطاء التي تسير بك من المهد إلى اللّحد. أنا أعني ذلك السائل الذي يسري في كل شيء بدءاً من الحبّار وصولاً إلى الفيل، أعني التمييز بين المادة الخامدة الهامدة والمباركة. الأفعال التي أودت بك إلى هذا المكان اليوم هي نتيجة للخطأ الأساسي في فهم قيمة الحياة. ولقد تصرَّفت بحرج عندما أخبرتني أنك قد «كسرت » هارلي فلوندي، وناديتني لأساعدك في حل المشكلة. لكنك لم تكن تعرف أبداً سبب شعوري بالامتعاض الشديد عندما وقع ناظري على ذلك المشهد في مطبخك. أراهن بأنك لا تزال لا تعرف. »
«سيد باتيرسون، هل سبق وسمعت بالأنظمة الآلية العضوية؟ »
وهزَّ باتيرسون رأسه.
«الأنظمة الآلية العضوية هي مخلوقات حيّة يحصل حَمْلُها في الخارج بصورة كاملة بالنسبة لأي كائن عضوي آخر. إنّها مكوّنة من خليط من الأجزاء الميكانيكية والعضوية وهي في نواحٍ عديدة متفوقة على الأنظمة العضوية العادية لأنها أقل تأثراً بالأمراض والتعب. »
«لعلك تتساءل ما علاقة ذلك بالقضية. إنَّ لذلك علاقة لأنَّ جميع سكان كوكب فيتغار هم مخلوقات آلية عضوية. »
«أتقصد أنكم جميعاً... »
«روبوتات » قال سوفهافن.. «نحن لسنا روبوتات على النحو الذي اعتدتُم تصوُّره. إننا أنظمة عضوية معقّدة، مثلك. الفارق أننا لا نتلاقح ونَحْمِل في بعضنا بعضاً. »
«أرفض تصديق ذلك. «قال باتيرسون. «أنتم بشريون كأي إنسان آخر. يمكنني معرفة ذلك من سلوككم. وليست لديكم مظاهر تدل على أنكم متصلبون وتقرقعون كالمعادن.. أنتم عاديون وحسب .»
«حتى الأنظمة العضوية يمكن برمجتها. أظنكم تسمون ذلك «تعليماً نحن كائنات حية تشعر وتحسّ. ذلك بالطبع إلى أن يأتي إلينا كائن جلد حيوي متغطرس – «تلك تسميتنا لكم – حاملاً مفكاً للبراغي! »
«ترك سوفهافن هذه الحقيقة تنغرز في نفوس السامعين. «لهذا عليك أن تفهم أننا نعتبر التفكيك جريمة أنت مجرم يا سيد باتيرسون. »
«على رِسْلك دقيقة » صاح باتيرسون.
«على السجين التزام الصمت إلى أن يتم توجيه الكلام إليه بالحديث » ولوَّح القاضي بحركة تهديدية نحو قفص باتيرسون. وصمت باتيرسون. واستمرت المرافعة لبضع دقائق بينما آخذ سوفهافن يصف التفاصيل المختلفة بما يتعلق بالذي وجده في شقة باتيرسون – أدوات الفحص الموصولة بأجزاء الضحية، الفوضى التي كانت تعمّ الشقة، وشهادة باتيرسون نفسه بأنه قام بتفكيك الخادم الخاص.
وبعد الاستماع لكلّ الشهادة التفت القاضي نحو باتيرسون.
«لقد سمعتَ الدليل المقدّم ضدك. وحتى الآن لم تظهر أي شعور بالندم. فماذا تقول دفاعاً عن نفسك؟ »
«سيدي »، بدأ كلامه بأدب. «لقد تأثّرت بقلقكم على الروبوت الذي كسرته. وأنا آسف حقاً لكن ألا تظنون بأن الأمر برمته قد تجاوز الحدّ قليلاً. أعني سوف أدفع تكاليف ما لا أستطيع إصلاحه! » وصاح أحدهم في الاجتماع خلفه «سوف تدفع بكل تأكيد! » «جريمة القتل جريمة خطيرة جداً يا سيد باتيرسون » قال سوفهافن دون أن يظهر أيّ أثر للدعابة.
«لكني لم أقتل. أنا كسرت الروبوت فقط! »
«روبوت؟ » يا سيد باتيرسون. لا أحسبك تفهم. فهارلي فلوندي لم يكن «روبوتاً فقط » لقد كان كائناً حيّاً يتنفس ويؤدي وظائفه. قل لي فقط ماذا تعني بالضبط بقولك «روبوتاً فقط؟ »
«ما قصدته فقط. فهو لم يكن، حسناً، كما تعرفون - مثلكم ومثلي. إنه » ذاك الشيء كان آلة، جهازاً. لا يعقل أنه كان واعياً يحس ويشعر. لا يمكن. »
وصاح أحدهم وسط الحضور. «قل ذلك لأرملته! «وبعدها اصطحبه أمن القاعة إلى خارجها.
«سيد باتيرسون » تابع سوفهافن كلامه. «أنت تقول إن فلوندي لم يكن حيّاً. ألم يخبرك أنه كان كذلك؟ ألم يرجوك ألاَّ تقوم ب.. «إطفائه » كما تقول ذلك بفظاظة..؟ سماحة القاضي » والتفت نحو القاضي ورفع\ قرصاً مرناً صغيراً كان أمامه على الطاولة... أقدم لكم التسجيل الدائم لآخر عشرين دقيقة في حياة هاريسون تي فلوندي كما استخرج من مسجِّلته العصبيّة. لنترك الدليل يظهر كيف دافع السيد فلوندي بعقلانية ومنطقية عن حياته أمام العنف الذي كان يوشك أن يتعرض له ومع عدم التصديق الظاهر على المتهم الذي لم يصدّق أنه كان بالفعل مخلوقاً حيّاً ومفكراً. وليظهر الدليل أيضاً كيف تجاهل المتهم مناشدة الضحية، لا بل كيف غضَّ المتهم الطّرف عن تلك المناشدة بتكبّر وغطرسة.
«وهكذا غرز تلك الأداة »
«مهلاً يا سوفهافن. » قاطعه باتيرسون «فلوندي كان آلة مخشوبة غير متقنة الصنع. كان داخله يعجّ بالبراغي والصاملات والأنابيب. حتى إنه كان لديه برغي في وسط بطنه. جلده كان اصطناعياً، صوته كان يتولد عن كمبيوتر من نوع ما موجود في حنجرته بينما كانت ردّات فعله ميكانيكية. ما بك! بل حتى إنه أسمعني تسجيلاً لأغنية «هللوا للقائد » حالما وصلت ودخلت الشقة. عندما فكّكْتُه إلى أجزاء شاهدت أسلاكاً ولوحات لدارات وأقساماً معدنية تماماً مثل أي روبوت آخر سبق لي أن أصلحته. غير أن هذا كان صعباً قليلاً ولهذا قمت باستدعائك. لكن «أن تقول إني قتلت شخصاً ما، ما بك؟، ذلك جنون. ولطم سوفهافن حقيبة أوراقه وأغلقها وسار نحو باتيرسون وهو يتميّز من الغيظ وكان صوته صامتاً على نحو مخيف. وقال هامساً: «ومن أنت حتى تقرر من هو الحيّ ومن ليس كذلك؟ «صحيح أن هارلي فلوندي كان مكوناً من المعدن والألياف والسوائل. وصحيح أن مخه كان مركباً من زرنيخيد الغاليوم 1 والخزف النحاسي. وصحيح أنه كان يستطيع التكلم بخمس وعشرين لغة ويعيد توليد أي صوت سبق وأن سمعه، ويؤدي أيّاً من الألف وستمئة تصرّف اجتماعي محدد في السياق الصحيح. لكنْ يا سيد باتيرسون. ألا يمكن أن يقال نفس الشيء عنك أنت؟
«فأنت مكون من عظام وأعصاب ودم. مخك مكون من بروتينات عضويَة ووقوده سكر الغلوكوز. يمكنك أن تتكلم ثلاث أو أربع لغات وأن تؤدي أيّاً من التصرفات التي يبلغ عددها بضعة آلاف من التصرفات الاجتماعية دون أن تتوقف لتبتلع ريقك. مما لا شك فيه أنكم جنسٌ متفوق يا سيد باتيرسون. فحركاتكم أكثر ليونة، وجلدكم أكثر مرونة، وأفكاركم أكثر دقة ودهاءً وأطواركم أكثر فجائية. قد يكون هناك عَرَج أو ألم في منطقة ما بين الفخذ والبطن عندكم. أنتم أكثر رشاقة، وصحتكم أكثر عرضة للأمراض وصنفكم أكثر ميلاً للمكر والخداع والاحتيال. قد يكون الواحد منكم صاحب حرفة يدوية أو عالِماً أو خبيراً في عصر النهضة، أو ربما متعصباً، أو داعية سلام أو أميراً. أنتم تربون الأطفال، تشعرون بالكراهية وتخافون البريّة. أيَّ من هذه الأدوار قد يناسبكم يلائم طبعكم الإنساني، لكن القتل.. » وهنا توقف هنيهة. لإسباغ تأثير على كلماته «القتل ليس مسوَّغاً على الإطلاق .» وقاطعه باتيرسون. «لكنَّ فلوندي كان مصنوعاً. صنعه وركّبه البشر. لقد دربه.. درّب ذاك الشيء أشخاص. لم يكن عنده مخ بل كمبيوتر. لم يكن لديه ر..ر.. روح. إن تدمير شيء ليس لديه روح لا يعد جريمة قتل. »
-ليس هناك فرق بين الجلد والسيليكون عندما يتعلق الأمر بالأرواح يا سيد باتيرسون، وذلك لأن لا أحد يعرف ما هي. هل يمكنك أن تشير إلى روحك؟ من عساه ذلك الذي يقول إن العمل الذي تبذله المرأة البشرية عندما تصنع مولوداً بشرياً كاملاً لا يساوي العمل والجهد الذي يبذله مئة رجل يكدحون ويجدّون ويعملون تفكيرهم ويعرقون ويكابدون لتحويل خمسين كيلوغراماً من المواد الخام إلى آلة كاملة؟ من تراه ذلك الذي يقول إنَّ الزيوت والمشحّمات والنيتروجين السائل الذي يجري في هارلي فلوندي في نشأته لا تساوي الدم والبلازما وماء المشيمة التي تبقي الجنين على قيد الحياة؟ من تراه ذلك الذي يقول إنَّ المشوار الأخير بدءاً من خطوط التجميع المزدحمة المشبعة بالبخار من مرحلة الطلي بالزنك بمحلول إلكتروليتي وصولاً إلى محطة الفحص والتدقيق لا يمكن مقارنته بتلك الدفعة الأخيرة عبر قناة الولادة خارج الرحم، أو مَن هناك ليقول إن ضغط زر ليس تربيتة الطبيب على ظهر الوليد، أو إن عبارة «أنا أعمل » ليست مماثلة لصراخ المولود. ألا يمثل ذلك القول الذي لا ريب فيه. والحشو الذي لا طائل من تكراره والجملة الفائقة الروعة والجمال «أنا حيّ! » سيد باتيرسون. هل أنت حيّ؟ ما عساه يكون ذلك الشيء الذي أخذته من هارلي فلوندي إن لم يكن حياته؟ كونك قاتلاً فهذا شيء لا يمكن دحضه. لقد بدأت أظن أنك أحمق أيضاً. سوفهافن كان ينتفض احتقاراً لباتيرسون. دار ملتفاً حول المجس مبتعداً عنه بعدما كاد وجهه يلمس وجه باتيرسون، وجلس في مقعد المدَّعي بإيماءة برأسه نحو القاضي.
علا تصفيق حاد القاعة، وجلس باتيرسون خائر القوى مشدوهاً في مقعده. فتح ذراعيه للحشد الذي يكنّ له العداء وبدأ يناشدهم العفو. «أنا كائن فضائي غريب عن كوكبكم. لست على معرفة بقانونكم الأخلاقي. هذه غلطتي. لكني مجرد رجل أعمال، ولست سفيراً. سأفعل عن طيب خاطر أي شيء ترغبون به. سأغادر كوكبكم، وأعدكم ألاَّ أعود إليه أبداً. أرجوكم افهموا، أنا لم أكن أعلم. » كان ذلك اعترافاً بالذنب. نهض القاضي واعتمر قلنسوته ذات الثلاث ريشات وقام بتحريك يديه حركة؟ واسعة. -نيكولاس باتيرسون. لقد تم اتهامك ومحاكمتك على الطريقة الفيتغارية. وقد تم التوصل إلى الحكم عبر وسائل عادلة ومنصفة. ووفق حكم هذه المحكمة سوف تعاقب العقوبة المناسبة كما نصَّت عليه قوانينا. صدر الحكم عن المحكمة. وبدأت صور المشانق والكراسي الكهربائية تومض في عقل باتيرسون. لقد بدا غير مصدِّق أنه سيتناول قريباً آخر وجبة من اللحم المشوي، وأنه قريباً، قريباً جداً سيمشي في ذلك الدهليز الأخير شديد الرطوبة وفاسد الهواء إلى غرفة الإعدام حيث يكون الجلاد المقنع الرأس بانتظاره. أراد أن يتوسل، أن يلتمس الرحمة، لكن لم تكن لديه فرصة. وبصوت لسع السياط التفّت أربعة أشرطة حول جسم باتيرسون، ساحبة إياه بقوة ليلتصق بمسند مقعده. وهبطت المنصة التي كان يجلس فيها في باطن الأرض، وبينما كان يهبط أكثر شاهد الحشد يغادرون القاعة. كان القاضي قد ذهب، وكذلك سوفهافن. لم يكن هناك من يمكن أن يطلب إليه التماس العفو، وغرقت المنصة في الظلام. شعر باتيرسون بالدهشة لكونه قد استيقظ. أخذ يحدّق في الجدران البيضاء البرّاقة لمقصورة نوم منفردة صغيرة خالية حيث كان يضطجع على حشيّة مريحة من القش للنوم. أخذ شهيقاً. أحسَّ أنه على قيد الحياة نهض من مكانه وسار نحو الباب ودخل في ممرّ يوصل إلى قاعة. وجد نفسه في شقة فاخرة. كانت السجاجيد المحاكة يدوياً معلَّقة فوق أرضية من الخشب. وكانت مصابيح ال Halogeine تشع بضوئها المتألق نحو مكتبات وأعمال فنية وأنسجة مطرزة باليد.!
رائحة حَمَل متبّل بالتوابل الهندية كانت تعبق في الهواء. لم تكن هذه بزنزانة سجن على الإطلاق.. لم يتذكر حضوره إلى هنا.. لم يستطيع تذكر أي شيء. وبينما هو مصعوق ممّا يرى حوله، وقف في وسط الغرفة... وانتظر. بعد ساعتين فتح الباب ودخل منه رجل يلبس معطفاً. كان يحمل حقيبة أراد باتيرسون أن يسأله ألف سؤال. كيف وصل إلى هنا؟ وما كان هذا المكان؟ وماذا سيحصل له الآن؟ سمع عزفاً موسيقياً. لم يتمكن من التعرف على اللحن. بدا له أن كل شيء كان يتحرك ببطء شديد. استغرق الأمر زمناً طويلاً جداً حتى يخلع الرجل معطفه. ابتسم الرجل لسماعه الموسيقى. حاول باتيرسون أن يفتح فاهُ ليتكلم لكنه لم يستطع أن ينبس ببنت شفة. توقفت الموسيقا. وتكلم الرجل ذو المعطف.
«آها، نيكولاس » قال الرجل بمرح. «هلاَّ حضّرتَ لي قدحاً من مشروب منهاتن .؟» ووجد باتيرسون نفسه يسير باتجاه البار. وتساءل شيء في أعماق عقله.. لماذا أقوم بهذا؟ » وبدأ بتركيب ومزج الشراب لتقديمه. انتابته الدهشة لأنه كان يعرف كيف يخلط مكوناته. لم يسبق له قط أن شرب مشروب منهاتن.
ثم تذكر. حتى الأنظمة العضوية يمكن برمجتها.
«نيكولاس » سمع خلفه الرنين الخافت الذي كان يتعالى في أذنيه.
«نيكولاس. أحضر لي شرابي ! »


*العنوان الأصلي للقصة روبوتات كوكب فيتغار ، نشرت هذه القصة عام 1990
**جويل واتشمان يعمل كمبرمج كمبيوتر ومستشار لدى الفرع الباريسي لشركة نشر الكتروني 

0 comments: