Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

عالم هاري هاريسون حين صار الجبل قطعة حجارة ...الأدب العلمي العدد السادس


محمود قاسم

في سنوات قليلة ، انفرط عقد أدباء التخيل العلمي ، الذين أسسوا لهذا النوع الأدبي المهم ، وكأنهم على موعدهم مع القدر ، في العيش معاً ، والرحيل على فترات قريبة ، تاركين ورائهم أروع ما ابتكرت البشرية من أفكار علمية مصاغة في روايات أو مسرحيات تحول الكثير منها إلى أفلام امتلأت بالرؤى المستقبلية والتحذيرات الصادقة مم سوف تأتي العلوم من خير وشر للإنسانية .
ستانسلاف ليم وآرثر كلارك وراي برادبوري، وأخيراً هاري هاريسون، يمثلون القوميات التي تعرف قيمة العلم والتقنيات في تطور المجتمعات الحديثة، والمستقبلية، عرفوا بغزارة إنتاجهم، وظلمتهم الجوائز الأدبية العالمية الكبرى، فلم يرشح واحد منهم لنيل جائزة بقيمة نوبل، وبالتالي لم يفوزوا بها، وهناك ملحوظة مهمة لهذه الأسماء، أنهم رغم غزارة إنتاجهم وقوة هذا الإنتاج، فإن أعمالهم أشبه بالجبل، الذي يتحول مع مرور الزمن إلى قطعة واحدة من الحجر، حيث أنه عند رحيل أحدهم، أو عند ذكر الاسم فقط، يقترن اسم كل كاتب برواية واحدة، أو مجموعة قصصية، مثلاً رواية «سولاريس » للبولندي ليم، و 2001« أوديسا الفضاء » للبريطاني كلارك ورواية «فهرنهايت »451 لبرادبوري، وأيضاً «الشمس الخضراء » لهاريسون الذي غادرنا في 15 أغسطس 2012، وهو الذي ترك ست وستين رواية ، وأكثر من خمسمائة قصة قصيرة منشورة في مجلات وروايات قصيرة، ومجموعات قصصية، بالإضافة إلى العديد من الكتب غير الإبداعية، ومختارات يصعب حصرها عددياً.. أي أن الرجل كرّس حياته من أجل التخيل العلمي في صور عديدة من الكتابة، والتأليف والإعداد.. والنشر، وهذه سمة واضحة بقوة لدى أدباء الخيال العلمي الحقيقيين من هذا الجيل الذين ملأوا حياتنا تواجداً، طبعاً في العالم من حولنا.
جاءت أهمية هاريسون في أنه مؤلف يكتب بالكلمة، كما أنه رسام للعديد من الألبومات، أي أنه بحث عن قارئ التخيل العلمي في كل مكان، سواء لدى الناشرين، أو في الصحف والمجلات، التي تنشر روايات التخيل العلمي، وقد كان الكاتب موجوداً حيث يتواجد هذا النوع من الإبداع بكافة أشكاله، أي أن هاريسون كان أكثر تواجداً من بقية أبناء جيله، في التنويعات التي يدخل فيها التخيل العلمي. نحن أمام كاتب أمريكي، مولود في 12 مارس عام 1925 ، باسم هنري ماكسويل دمبس في ستامب فورد، بولاية كونكتيت، لأب قادم من أيرلندا، وقد غير الأب اسمه إلى هاريسون بعد ميلاد ابنه، ولم يعرف الكاتب هذه المعلومة حتى بلغ سن الثلاثين وفيما بعد غير هو نفسه اسمه الأول إلى هاري، أما أمه فهي روسية الأصل، عاشت في سان بطرسبورج، وكانت تتمتع بثقافة واسعة في مجالات متعددة. عاش جزءاً طويلاً من حياته في بلاد عديدة، حيث دعي دوماً إلى استخدام لغة الأسبرانتو، هذه اللغة التي استخدمها بشكل ملحوظ في الكثير من أعماله، باعتبار أن العلم هو أيضاً للبشر جميعاً، وكان هاريسون من أنشط أعضاء منظمة الأسبرانتو كما أنه خدم في الجيش الأمريكي إبان الحرب العالمية الثانية، وبعد نهاية الحرب عاش في ايرلندا، وعاد للتجوال مرة أخرى بين البلاد. في عام 1954 ، تزوج وأقام في نيويورك، وقد عرف الاستقرار العائلي، إلى أن رحلت زوجته عام 2002 عقب إصابتها بالسرطان، وقد قرأت زوجته كافة أعماله التي نشرها ابتداء من «عالم الموت » عام 1960 وحتى وفاتها. كما ذكرنا فإن رواياته وكتاباته كثيرة العدد، ومتنوعة العناوين، وسوف نذكر بعضاً من هذه الروايات وسط الإبداع الأقرب إلى جبل ضخم من الصفحات، منها «فأر من المعدن اللامع » عام « ،1961 كوكب الملاعين « ،1962 » إنتقام القديس « ،1964 » اصنع غرفة « ،1966 » آلة زمن متعددة الألوان « ،1967 » إنتقام الفأر اللامع المعدن « ،1970 » سفينة فضاء طبية 1970 » ، «نفق عبر الأعماق »، و «الفأر اللامع المعدن ينقذ العالم 1972 » ، و «سقوط الجليد » 1976 ، و «عالم من قش 1980 » ، و «كوكب بلا عودة 1981 » ، و «غرب عدن 1986 » ، وقد كان له عالم بعينه، من الأماكن ليعود إليه من رواية لأخرى، كأنه يكتب مسلسلاً من الروايات، مثل سلسلة رواياته حول «بيل، بطل المجرة » ومن أعماله الأخرى «المطرقة والصليب 1993 » ، و «الملك والإمبراطور 1997 » ، وقد نشر في عام 2001 ، الرواية السابعة من سلسلة «عالم الموت » وهي التي قرأتها زوجته قبل رحيلها إلا أنها لم تقرأ روايته «عودة الفأر اللامع المعدن » التي نشرتها عام 2010 ، ومن أبرز مجموعاته القصصية هناك «حكايتان، وثمانية غدوات » 1965 ، و «الحرب مع الروبوت 1967 » ، و «رقم أولي 1970 » ، و «أجمل ما كتب هاري هاريسون »1976 ، و «خمسون على خمسين » عام 2001 . وقد قدم الكاتب دراسة عن تاريخ الجنس في التخيل العلمي.. تحت عنوان «كريات ضخمة من النيران » عام 1977 ، و «مركبات الفضاء بين الواقع والتخيل »، عام 1979 ، أما مختاراته في مجال النشر والتخيل العلمي، فأهميتها في جديتها حيث عكست دور الكاتب في خدمة أدب النوع منذ نشأته، في منتصف القرن التاسع عشر وهي تضم عدداً ضخماً من العناوين اختارها لدور النشر، من أجمل ما ألفه أقرانه في أدب النوع.
هذا الجبل الضخم من العطاء، والتميز، يختصره النقاد في عمل قصصي واحد نشره هاريسون في عام 1966 تحت اسم «اصنع غرفة اصنع غرفة »، باختصار لأن كاتب السيناريو ستانلي جرنبرج قد قرأ الرواية، وحولها إلى فيلم أخرجه ريتشارد فلايشر، عام 1973 ، في واحد من أهم أفلام التخيل العلمي على الإطلاق، فبدا النقاد كأنهم يختصرون هذا الجبل الكثيف من الإبداع في قطعة حجر واحدة فقط، وقد اختير الفيلم دوماً بين أحسن خمسين فيلماً من افلام التخيل العلمي، لذا سوف نتوقف عنده، ونقوم أيضاً باختصار هذا العالم الواسع في كتاب واحد للمؤلف، وذلك لأن الفيلم لم يعرض تجارياً في مصر إبان إنتاجه، لأن الممثل إدوارد ج. روبنسون كان ضمن اللائحة السوداء الممنوع عرض أفلامهم في العالم العربي، إلا أننا شاهدناه فيما بعد على شرائط الفيديو التي كانت تؤجرها نوادي الفيديو التي تلاشت مع الزمن. كما نرى، فإن أعمال هاريسون بدت أشبه بسلاسل طويلة من الروايات، كرس حياته لكتابتها في مجلدات ضخمة، من أجزاء، مثل روايته الأولى «عالم الموت » التي ظل يكتب أجزائها الثانية طوال أربعين عاماً، وفي الوقت نفسه فإنه كان يكمل مجلدات لرواياته الأخرى، كأنه يقوم بتأليفها بشكل متواز، ولاشك أن هذا يتطلب ذاكرة تأليفية خارقة للغاية، ولاشك أيضاً أنه كان في حاجة إلى قارئ يمتلك الذاكرة نفسها، بحيث يتابع الأحداث طوال أربعين عاماً لمثل هذا العدد الكبير من المجلدات. ورغم كل هذا التنوع، والغزاة في الكتابة، فإن هاري هاريسون لم يتوجه نحو السينما، مما يعكس مكانة الوسائط الأخرى لدى القراء، وترك لغيره اكتشاف أهمية روايته «اصنع غرفة اصنع غرفة » وعندما تم اختيارها، لم يسع المؤلف بالمرة للمشاركة في كتابة السيناريو أو الحوار أو حتى الإعداد. ومن حسن الحظ أن الرواية أوكلت في إخراجها إلى ريتشارد فلايشر، أحد أهم صنّاع السينما كثيرة التكاليف في تلك الآونة، وهو الذي وضع عينه دوماً على التخيل العلمي، حيث أخرج «عشرون ألف فرسخ تحت البحار » عام 1954 ، وقد اختار شارلتون هستون كي يجسد دور شرطي مدينة نيويورك لعام 2022 ، وهو الممثل الذي أسندت إليه بطولة أهم أفلام التخيل العلمي مثل «كوكب القردة » و «رجل الأونجا .» هذه الرواية التي تحولت إلى «الشمس الخضراء » أو «سولينت الأخضر » تنتمي إلى روايات التحذير التي انتشرت في تلك الآونة، إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي، والغربي، وقد حذرت أغلب روايات التخيل العلمي، وروايات التخيل السياسي أن نهاية العالم سوف تأتي بسبب الحرب النووية المرتقبة، أما هاريسون، فقد رأى أن هذه النهاية المأساوية سوف تحل من الانفجار السكاني الذي يحل بالمدن، ويختار مدينة نيويورك لعام 2022 ، أي بعد عشرة أعوام من تاريخنا العام، حيث نراها، وقد ازدحمت بالسكان، لدرجة أن الناس توقفت عن استعمال السيارات الخاصة، وأصبحت الشوارع، والبنايات مخنوقة بالبشر ليل نهار، لدرجة أن الشوارع تحولت إلى سكن للكثير من أبناء نيويورك.
يرى هاريسون أن عدد سكان نيويورك قد بلغ الأربعين مليون نسمة، وأن المدينة قد صممت لعدد لا يزيد عن الثمان ملايين نسمة على أكثر تقدير، إن الأربعين مليون رقم بشري مخيف، حيث ازداد تعداد السكان في كل أنحاء العالم، لم يتزاحم الناس فقط على الطعام، والشراب، ومكان للسيارات، بل صاروا يتصارعون للعثور على مكان آمن ينامون فيه. ووسط زحام المدينة وتحت هذا الجو الخانق، حاول رجل عملاق أن يجد لقدميه مكاناً في الشوارع من أجل الوصول إلى عمارة الأمبايرستيت، أعلى ناطحة سحاب في المدينة. إنه المفتش تورن الذي عليه الصعود إلى الطابق التاسع والثلاثين بعد المائة من أجل القيام بمهمة خاصة. وعندما دخل المفتش من بوابة الناطح  العالية، راح يتنفس الصعداء، فهذه العمارة لا تسكنها سوى الصفوة من أبناء المدينة، إنه يعرف أن الظروف الاقتصادية التي طرأت على العالم في السنوات الأخيرة بعد انفجار القنبلة السكانية، قد قسمت الناس إلى ثلاث فئات الأغنياء، والفقراء، ورجال الشرطة. المهمة الخاصة هي التحقيق في جريمة مقتل أحد الأغنياء، السيد ويليام، وعندما تفتح له ابنة القتيل الباب، يدرك أنه في عالم مختلف تماماً عم يحدث في شوارع المدينة المزدحمة، فهذه شقة واسعة تطل على نيويورك، ووسط تحريات الشرطي، إن أهم ما يلفت أنظاره، وجود قطعة من اللحم الطازج في الثلاجة، هي فخذة من بقرة ذبحت قبل أيام، أو ربما من أسابيع، وهو شخصياً لم ير مثل هذه القطعة منذ سنوات ولعله نسي اسمها، وشكلها.. شيرلي ابنة القتيل روّعها أن يدقق المفتش في محتويات المطبخ بعين المحروم، فهناك أيضاً أسماك، وأجبان، وفواكه وخضراوات، إنها أشياء نادرة لا توجد الآن إلا في بيوت الأغنياء جداً.. مثل بيت السيد ويليام سايمون، الذي قتل في ظروف غامضة، فلاشك أن أحد أسباب الجريمة هو محاولة الاستيلاء على محتويات الثلاجة، لكن المفتش يكتشف أن هناك سبباً آخر، وهو «الشمس الخضراء » إنه اسم الطعام الشعبي الذي يتناوله الناس عوضاً عن الأطعمة الطازجة التي انقرضت قبل سنوات، منذ أن أصاب الكرة الأرضية تلوث شديد بسبب العادم، ومخلفات المصانع، واتساع ثقب الأوزون. دعا المفتش نفسه إلى تناول وجبة بها قطعة من اللحم، وعندما انتهى من التهامها، أحس أنه يمكن استخدام عقله بطريقة أفضل، فقرر استشارة صديقه الحكيم العجوز حول أمور عديدة لا يعرفها، وعن أزمنة الخير القديم الذي لم يعشه أبناء عام 2022 .
يعيش العجوز روبي في شقة مليئة بالمراجع والكتب، لم يتخيل هاريسون ولا صنّاع الفيلم إلى أن القرن الحادي والعشرين هو قرن المعلوماتية والكومبيوتر، وتخيل المؤلف أن الكتاب الورقي ستظل له سيادته، العجوز روبي يأكل «الشمس الخضراء » مثل الآخرين، وعندما يبلغه المفتش أنه أكل لحماً وخياراً وعنباً، تصور أنه يحلم بدور العجوز أن القتيل عاش في زمن الهواء النقي والخضرة الواسعة والأحلام الوردية أيام كانت المساحات الخضراء تشمل مناطق واسعة في العالم، عندما كانت الأنهار تمتد في أماكن متعددة من القارات الآن لا يوجد شيء من هذا، وقد صارت الشمس التي تطل على العالم خضراء، مليئة بالأخطار والتلوث، الآن ازداد السكان وقلت الخيرات بل انعدمت. يطلب العجوز من الضابط البحث عن سر اختفاء ملف «الشمس الخضراء »، فلاشك أن هناك سراً أدى إلى مقتل ويليام سايمون، وصدم الضابط حين أبلغه محافظ نيويورك أنه سوف يتم إغلاق ملف مقتل سايمون، لذا قرر المفتش أن يتولى الأمر بصفة شخصية، وبدأ يستعين بشيرلي ابنة القتيل، وعندما عثر على المفكرة الخاصة به لاحظ أن الكتابة مدونة بحروف مرتبكة، وكأنها مدونة على عجالة، وقرأ المفتش «نورن » أن ويليام يقف دوماً ضد «الشمس الخضراء » وأنه يدعو المسؤولين إلى أن يغيروا من طريقة تصنيع هذا الغذاء الشعبي الذي لا يأكل أهل نيويورك عداه.. وفي المفكرة عرف المحقق أن القتيل كان على خلاف في وجهة النظر مع المحافظ حول الطعام الشعبي للمدينة. وقرر نورن أن يتوجه إلى مصنع الأغذية بنفسه، وبدأ يفهم الأمر فالطعام الشعبي يصنع من نفايات المدينة، حتى يتم استجلابها من مقالب النفايات، وتوضع فوق سيور ضخمة تنقل إلى مراجل كبيرة، ويتم تقليبها، وتتحول النفايات إلى عجينة غريبة الشكل في أفران خاصة، وتصبح بعد ذلك أقراصاً مستديرة، يأكلها الناس كطعام شعبي وحيد.
وفور أن علم الضابط بسر «الشمس الخضراء » تسلل إلى مبنى الإدارة، ورأى المحافظ يرأس اجتماعاً يضم كبار رجال مدينة نيويورك لعام 2022 ، وسمع المسؤول عن المدينة يردد أنه تم التخلص من سايمون حتى لا يكشف سر الطعام الشعبي أمام الناس، لذا كان يجب أن يموت. وعندما حدثت المواجهة بين رجل الشرطة، وحاكم نيويورك قال هذا الأخير إن الناس يستحقون ما يحدث لهم، فقد ساعدوا في تلوث الكرة الأرضية، وهاهم يدفعون الثمن، فلا يجدون طعاماً أو شراباً نقياً. ورغم أننا أمام رواية تحذير، فإن الصياغة البوليسية، المليئة بالترقب للأحداث تجعل الحل الذي وضعه الكاتب لا يتناسب مع التحذير، فبعد القبض على المسؤولين فإن هناك إشارة إلى أنه سوف يتم بناء مصنع جديد، دون الإشارة إلى نوع المادة الأساسية في تكوينه، حيث أن الشمس الخضراء كانت تصنع من لحوم الموتى الجدد الذين يتساقطون في نيويورك. أهمية هذا العمل الأدبي، والسينمائي، هو أن نهاية العالم سوف تأتي على أيدى الناس أنفسهم الذين ازدادوا في الأرض، وتكاثروا ، ثم لوثوا هذه الأرض فأجدبوها، وتكدسوا في الشوارع، جوعى، وعطشى، غير قادرين على العمل، أو الإنجاز، لقد تخيل الكاتب هذه الصورة التحذيرية منذ قرابة نصف قرن، وهناك مشهد في الفيلم، غير موجود في النص الأدبي، حين يرقد العجوز في غرفته، ويدور به سريره، كي تنعكس على الجدران، صور من الماضي الجميل، الذي كان البشر يأكلون الخيرات، ويشربون أجمل المشروبات، ويتمتعون بهواء نقي، كل هذا صار من زمن الذكريات، التي لن تعود أبداً.

مجلة الأدب العلمي  العدد السادس  بيئة المستقبل

0 comments: