Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

التنجيم في أدب الخيال العلمي ...الأدب العلمي العدد الخامس


د. سائر بصمه جي

قد يذهل المرء عندما يعلم أن ما ينفقه الشعب الفرنسي على التنجيم كل عام يعادل تقريباً ما تنفقه الحكومة على البحث العلمي . فما هو سر هذه القوة السحرية التي يملكها هذا "العلم الزائف" والتي حافظ على بقاءه من خلالها لآلاف السنين ؟
التنجيم علم زائف يقدم تحليلاً للشخصيات، ويصدر تنبؤات على أساس خرائط البروج التي ترسم للمواقع الظاهرية للشمس والكواكب في سلسلة من اثنتي عشر منزلاً في دائرة بروج مرتبطة (التي تنطوي في الوقت الحاضر على وضع شيء في غير زمانه الصحيح) مع الأبراج المختلفة والتي تتوافق مع مستوى دائرة البروج. ترتكز فرضيات هذا العلم بشكل أساسي على أن قَدَرَ وشخصية الفرد تحددهما خريطة البروج المتعلقة بمولده وإن حركات الأجسام السماوية بالنسبة لذلك الموضع الابتدائي تؤثر في التغيرات اللاحقة في قدر الفرد. العلاقة التاريخية بين التنجيم وعلم الفلك مماثلة لتلك بين الخيمياء والكيمياء؛ فالأول تنبؤي كان يمارس على نحو واسع منذ عصور قديمة تعود لزمن البابليين، ولما ازداد اهتمام العرب بأمر التنجيم قبيل منتصف القرن الثامن الميلادي، قام بعض العلماء والمفكرين العرب والمسلمين بمحاربته، وقد مثَّل هذه الحملة الكندي والفارابي وابن سينا وابن حزم. فالكندي انتقد أقوال المنجمين في تنبؤاتهم القائمة على حركات الكواكب. كما خالف الفارابي معاصريه وأكد على بطلان صناعة التنجيم وكتب آراءه عن ذلك في رسالة بعنوان (فيما يصح وفيما لا يصح من أحكام النجوم) أما ابن سينا فقد ضمن رأيه في بطلان دعاوي التنجيم في رسالة عنوانها (في إبطال أحكام النجوم)، وجاءت آراء ابن حزم واضحة في كتابه (الملل والنحل).
تضاءل الاهتمام بعلم التنجيم في أوروبا بظهور النصرانية، حيث تطلَّع الناس إلى القيادات الدينية بدلاً من المنجِّمين. وقد استعاد التنجيم شعبيته خلال القرن الثاني عشر الميلادي. وازدادت أوجهه تعقيداً في عصر النهضة الأوربية، عندما ساعدت وسائل القياس الجديدة والطرائق الرياضياتية المسهلة للرصد الفلكي أيضاً في حساب وتمثيل خرائط البروج.
في القرن السادس عشر ازدهر علم التنجيم مجدداً في قصور أوربية كثيرة، عندما عين الملك الفرنسي هنري الثاني سيدة ميشيل دي نورت، أليس نوستراداموس كطبيبة له في عام 1556 ، في حين أُحسن وفادة جون كبلر وجون دي في قلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
أيضاً بقي البلاط الإنكليزي حسن الوفادة للمنجمين طوال القرن السابع عشر، وقد كان المنجم الإنكليزي الأكثر شهرة في ذلك العصر هو وليم ليلي وكتابه (علم التنجيم النصراني) عام 1567 ، أعيد طبعه عام 1852 ، بعنوان (مقدمة في علم التنجيم) وعُد لفترة طويلة ككتاب تعليمي أساسي. وقد بلغت فيه الثقة إلى درجة استدعاء ليلي إلى مجلس العموم ليفسر أسباب حريق لندن الكبير.
يستند المنجم سيدروفيل إلى عمل (هوديبراس) لصموئيل بتلر بين عامي ( 1678-1663 )، مع أن السير باول هارفي في دليل أكسفورد للأدب الانكليزي يورد نموذجاً مختلفاً. مع التراجع إلى مملكة علم السحر والتنجيم في القرن الثامن عشر، حيث جسد مبدأ " الحال فوق وتحت سيان " على نحو بارع جداً؛ فإن علم التنجيم استمر في الازدهار في التقاويم.
السجل المؤثر للأرصاد التي جمعها المنجمون الأوائل (راسمين خريطة لدورة الفصول) سهَّل إنشاء التقاويم وقوائم المد والجزر، ولكل منها قيمة كبيرة في تنظيم الأعمال البشرية، وهكذا ليس مدهشاً أن يتم البحث عن ارتباطات إضافية على نحو حثيث وتصورها. وليس مدهشاً أنه في حين أن القدرات التنبؤية لعلم التنجيم جمعت جانباً في كتاب ما بعد كوبرنيكوس من علم الفلك؛ فإن الكثير من الأشخاص المسؤولين كسبوا جزءاً مهماً من رزقهم كمنجمين وهو اقتراح عرض على نحو متواضع لنظرائهم الحديثين في عمل جاك ماكنتلي (صفيحة بألف دولار).
بطريقة مماثلة للمشتغلين بالخيمياء؛ فإن المنجمين صوّروا على نحو معتاد في الخيال كمشعوذين مع أن (كون شاوسر) عام 1988 لجون نورث الذي يعد الإشارات التنجيمية في مقدمة ل (حكاية كاهن) هي جدية وملغزة على نحو مدروس أكثر بالمقارنة مع رأيه في الخيمياء في (حكاية معاون الكاهن) نحو عام 1390 ، وفيما يبدو أن أدب النهضة الانكليزي يتضمن إشارات كثيرة وسريعة التصديق.
المعالجة الأدبية الجادة للفرضية المركزية العلمية الزائفة في علم التنجيم نادرة جداً ومع ذلك فإن (أسطورة المنجم العربي) عام 1832 لواشنطن إيرفنغ، و(المعبر الأسود) عام 1820 لجون غالت، استثنائيتان. إن (أطفال دائرة البروج) عام 1891 لروديارد كيبلنغ و (أطفال دائرة البروج) عام 1929 لوليامسون، و (ابنة غريبة) عام 1945 للويس دي وول، و (قتل عمد غريب لأبعد حد) عام 1991 لجون دالماس، تعبث بعلم التنجيم الحقيقي بطريقة فاترة وواضحة. أما (المنجم المتحمس)عام 1936 لألن غريفتن، و(المنجم) عام 1950 لإدوارد هيامس، و(لا نجوم أكثر) عام 1954 للستر دي ريي، و(المنجم) عام 1972 لجون كاميرون، و(مدون في النجوم) عام 2005 لإيان ماكدونالد، فإنها تستخدم علم التنجيم على نحو متحمس لتدرس مفارقة النبوءة.
ازدادت شعبية علم التنجيم في أواخر القرن العشرين مع أنه كان لا عقلانياً بشكل صارخ. فقد سهلت الحاسبات حسابات الممارسين للتنجيم بشكل كبير، وقد صور بطريقة مسرحية في (المحرّك التنجيمي) عام 1977 لتشارلز أوت، مستفيداً من ميزة تقنيات الاتصالات الحديثة، فهو يطرح فكرة تقديم الاستشارات التنجيمية بوساطة الشابكة (الانترنت)والخطوط الهاتفية الاستثنائية.
التطبيقات العملية لعلم التنجيم في القرن العشرين ظهرت في (الزراعة الدينامية الأحيائية) التي ابتكرها رودولف شتاينر، ووفقاً له فإن المحاصيل يجب أن تزرع عندما يكون القمر متحركاً عبر أبراج خاصة في دائرة البروج، وهي طريقة تبناها أمير ويلز.
زادت شعبية علم التنجيم كثيراً بعد ظهور عمل (أثر المشتري) عام 1977 لجون غريبينس وستيفن بيلجمان، المبني على أساس معلومات نشرت في مجلة العلم عام 1971 تقترح وجود علاقة متبادلة محتملة بين الاقترانات الكوكبية ونشاط البقع الشمسية والزلازل الأرضية. وقد ضخمت هذه الفرضية من قبل الصحافة الآثارية، فقد شجعت فريدريك بول عام 1982 ليضع عمله المسرحي الشكوكي (نقطة اقتران القمر). نشر جوزيف غودافاج في وقت مبكر سلسلة مقالات تحت عنوان (تجربة حاسمة) في(أنالوج) بين عامي( 1962 - 1963 ) قارن فيها بين تكهنات أرصاد فلكية مع الطقس الفعلي، لقد حاول البدء بدراسة ضخمة في المجلة نفسها بعنوان (كسب الوقت) عام 1976 لكن لم ينشأ عنها شيء. جميع الرسائل في علم التنجيم هي أمثلة عن خيال جامح مثقف، وتتضمن: (ساعات كونية) لميشل جاوجلين عام 1970 ، وفيها اكتشف علاقات متبادلة بين مهن رجال فرنسيين بارزين ومواقع المريخ والمشتري في وقت ولاداتهم. لقد أمدت شعبية علم التنجيم في القرن العشرين هذه الأعمال بأمثلة أساسية للأساليب المختلفة لفن النثر العلمي الزائف، وأن تجتذب محاكاة ساخرة عابثة في أعمال مثل (صعود العنكبوتيات) عام 1977 لجون سلاديك، الذي درس خاصيات العلامة الثالثة عشرة لدائرة البروج المفقودة منذ فترة طويلة. الأعمال الأدبية الحديثة التي جعلت من علم التنجيم ناجحاً، مثل سلسلة ميشيلا رويزنر التي بدأت ب (النجوم تقرر المصير) عام 1999 ، وسلسلة ديني دي مارتينو التي بدأت ب (قلب المنجم من حجر) عام 2001 ، توجد بشكل اعتيادي تواريخ خيارية مفصلة.
الاستشهادات المجازية والنشر الرمزي للتخيلات التنجيمية منتشرة بشكل واسع في خيال القرن العشرين، لكن نادراً ما تكون في الصورة الأمامية. ويعد (المجهر) عام 1969 لبيرس أنطونيو هو استثناء بارز.
إن المشاهد العالمية المتباينة لعلم الفلك وعلم التنجيم تهجى على نحو معتدل في سلسلة قصص من قبل الفلكي روبرت ريتشاردسون والتي بطلها هو فلكي تزوج من ساحرة تمارس التنجيم وتتضمن (محظور المستقبل) عام 1973 ، و (قطرة من دم التنين) عام 1975 . وهكذا يبدو لنا كيف مارس التنجيم فعله، مع زيفه، في أدب الخيال العلمي ليدفع بالمزيد من الحشود الشعبية لتبني طروحاته للأسف، أكثر من تصويره كعلم يجب محاربته وإيقاف مده. وإننا لنأمل من أدباءنا وكتابنا العرب أن يزخموا أدب الخيال العلمي بكشف حقيقة التنجيم، والتصدي لأولئك الذين يظنون أنهم قادرون على تحديد أقدار البشر سلفاً.


مجلة الأدب العلمي  العدد الخامس  دراسات وأبحاث

0 comments: