Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

اللانهاية ....الأدب العلمي العدد الثامن


تأليف بيتر بينتلي
ترجمة : توفيق محمد السهلي

لو كان الموت هو نهاية الوعي ،لكان أينشتاين على صواب ، اللعنة عليه! أنا حبيس سجن من اللحم والعظم . جسمي ذاته هو أداة التعذيب التي تحجّمني إلى مجرد أحمق باكٍ، غير قادر على الكلام ، عاجز عن الحركة بشكل مناسب ، ولا مقدرة لي على فهم من حولي . لست بأفضل حال من فليفلة خضراء، ما عدا أن الفرق بيننا هو جذوة الوعي الداخلي. عقلي لا يزال سليماً !أنا ما أزال هنا !
 أضم قبضتيّ ثم أبسطهما مجدداً. خفقات قلبي تحتذي ببعضها الواحدة تلو الأخرى في صدري. النظر إلى أسفل يجعل رأسي يترنح كدمية مصنوعة من الخِرَق البالية. يداي لا فائدة منهما، فأنا بالكاد أستطيع التحكم بهما. هاتان اليدان اللتان كانتا تعْملِان بمبضع الجراحة بكل دقة في النسيج العصبي البشري في أرقى مختبرات الأبحاث في العالم، باتتا عاجزتين الآن حتى عن حمل مطرقة على استقامة واحدة. إذا كانت هذه سنّة الحياة فأتمنى لو أني لم أولد!
شمس الصيف تدفئ رأسي الأصلع. أشهق وأزفر محاولاً للمرة الألف أن أستعيد القدرة على التحكم التي كانت لدي ذات مرة. على الأقل أحس أن رئتيّ نظيفتان مرة أخرى. . رائحة العشب الأخضر الندي الذي أجلس عليه تملأ أنفاسي وأنفي. طنين نحلة عابرة يُنسيني أمر المطرقة ويجعلني أتَلَفّتُ حولي باندهاش. ضجيج الحشرة يتلاشى حتى قبل أن أراها، وهذا ليس لأني لا أستطيع الرؤية بوضوح بأي حال. فكل ما هو أبعد من متر عني يبدو مغبشاً فيجعل الأجسام المرئية مضاعفة، لكنْ نظارتي ما عادت معي.
تجثو أمي على ركبتيها بالقرب مني. تبدو شابة جميلة بشكل لا يصدق وهي تعتني بأختي التوأم و بي. كيف يمكن أن تبدو كذلك؟ تبْسِمُ في وجهي وتلتقط المطرقة، وبحركة من يديها لا تستطيع يداي تقليدها تريني كيف يمكن استخدامها على قطعة من الخشب. هل كان من المفترض بذلك أن يكون درساً تلقنه إياّي؟ أَ وَ لا تدرك أنني أحد أفضل جراحي الأعصاب وأكثرهم خفة ورشاقة في اليد ممن شهدتهم البشرية؟ لا، بالطبع هي لا تدرك ذلك.
يزقزق عصفور في الأشجار وراءنا. مجرد محاولة النظر إلى الوراء تجعل العالم يدور بي وأنا أقع إلى الخلف. أنا أشبه بسلحفاة مقلوبة على ظهرها، لا يمكنني فعل شيء عدا التلويح بذراعيّ ورِجْليّ، ومع ذلك فشذا الأعشاب طيب. أشعر بنسيم بارد منعش يصفع وجهي. أشعر بجلدي طرياً ناعماً وحساساً لكل تجربة، أحس بدغدغة في أنفي تدفعني إلى العطس.
أسمع أختي التوأم تُقَرْقِرُ . لا بد أنها تجد ورطتي أمراً يبعث على الضحك. لكني أعرف أنها خلف قناع مظهر الطفولة تشاطرني إحباطي. لا أحد منا قادر على التركيز على أي شيء لأكثر من دقيقة أو اثنتين. غير أننا سوياً نعرف أنه علينا المحاولة قبل أن نفقد ما تبقىّ من إحساسنا بنَفْسَيْنا. بوسعي رؤية ذلك في عينيها، ذلك الشعور بالفقدان مع تلاشي ذواتنا شيئاً فشيئاً ، يوماً بعد يوم، مما يجعلنا أقل فأقل مما هو نحن.. مما كنا عليه...مما سنكون. أعرف أنها تتذكر. بالطبع يجب عليها أن تتذكر.
كل يوم أحاول أن أتكلم، أن أشرح لها ما أعرفه عن طبيعة الوعي. هذه هي فرصتي لأحقق ما عجزت عن تحقيقه خلال ثلاثين سنة من البحث في مجال علم الأعصاب. حتى الآن كلماتي كلها كانت غير مفهومة. عندما أتعلم مجدداً كيف أحرك فمي ولساني بشكل مناسب لأنطق الكلمات التي أتوق إلى قولها، سيكون ذلك أعظم إنجاز علمي في الأزمنة كلها. يقولون: من أفواه الرّضعّ...حسن ، هذه المرة سيكونون على صواب.
بعد سقوطي تعيد أمي إيقافي، وتمسح أنفي الراشح. تعثر على دورق العصير وتجعل بُلْبُلَه الصغير في فمي. تفعل الشيء ذاته مع أختي بإبريق آخر. كلانا نرشف العصير مُصْدِرَيْن بعض الضجيج. نكهة العصير الحامضة ترسم ابتسامة السرور على وجْهَيْنا. سرعان ما يفرغ دورقي من العصير، وأسمع بربرة من كلمات ليس لها معنى، فأتجاهلها، ثم أمسك بمطرقتي البلاستيكية قبل أن تمتد إليها يد أختي. تجلس أمي مرخية ظهرها إلى الوراء ممسكة بكتابها ذي الجلد القماشي المنسدل الأطراف. وبينما أنا أمسك بشكل أخرق بمطرقتي اللعبة بيدي اليمنى، أنظر إليها مفكراً. كم سيطول بي الوقت حتى أعرف الحقيقة. إلى متى أستطيع أن أتمسك بذكرياتي الغالية قبل أن يطويها الضياع وأتحول إناء فارغاً مثل إبريقي ليُعاد ملؤُه بالمحتويات نفسها لا غير. يجب عليّ أن أتمسك بماضيّ ، بحياتي. هناك ذكرى واحدة يهمني أن أظل متمسكاً بها فوق أيّ من الذكريات. أكثر من ذكريات عملي، وزوجتي الجميلة، وأطفالي الثلاثة، وأحفادي الخمسة،. آه يا الله! تخونني الذاكرة حتى أنني أعجز عن تذكر أسمائهم! أحدهم كان يدعى جون. أو جوني. أو لعل ذلك كان أخي الصغير؟ كان ذا شعر أشقر... أم لعلها كانت ابنتي؟ وَهْوَهَة لا إرادية تفر من فمي. ترمقني أمي بنظرة قصيرة من وراء كتابها. أحاول أن أهدئ نفسي، لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة. أحاول تركيب الذكريات، لكنْ حيثما يجب أن تتراكب لا أجد إلا الفجوات. لكمْ هو مخيف أن تعرف أن حياتك تسُرق منك ولا يسعك أن تفعل أي شيء لتتمسك بها.
غير أن انتباهي يتشتت من جديد. ذكرى وحيدة تبقى محفورة في عقلي كما لو كانت دمغة بسيخ للكيّ . هذه الذكرى قوية جدا إلى حد أنها لا يمكن أن تكون مجرد مصادفة أو خطأ. ربما أن الصدمة التي أحدثَتْها قد تغلغلت في أعماق عقلي:..... إنها ذكرى وفاتي قبل ثمانية عشر شهراً.
رائحة المخدر المعهودة في الغرفة الكبيرة. بإحساس من الإحباط انفَتَلْتُ على كرسيّ المختبر الدوار، الذي صرَّ مع دوراني. النتائج الأخيرة لم تكن صحيحة. فحص لطخ ال «جي إف إي بي » لم ينجح، ونتائج الخزع المستخرجة بالكاد مقروءة. أعدت تعديل المجهر وأنا أكبح تنهيدة من فيهي. كان من المفترض بهذا أن يكون الخيار المثالي لتجربة تَكْمِيّة مثنّاة(1) لمريض مصاب بالصرع بسبب صدمة نفسية ألمّت به قبل وفاته بخمس سنوات.
التجربة كانت آخر محاولاتي لتتبّع أثر الوعي داخل المخ. كنا نفحص مرضى معوقين بصورة يمكن قياسها، أشخاصاً تمنعهم إعاقاتهم من الإدراك الواعي لأفعال عادية مثل رؤية الحركة لكنْهم قادرون مع ذلك على تنفيذ هذه الأفعال بصورة لا واعية. بدلاً من دراسة مرضى أحياء، ركزت مجموعة بحثي على دراسة المركبّات العصبية بعد موتهم. خزع كبيرة من مناطق حساسة في المخ كان يجري تحضيرها وتقطيعها صفيحات لا تتجاوز سماكة الواحدة منها سماكة الخلية الواحدة، وتلوينها، ومسحها حاسوبيا ثم معالجة الصورة، وبعدها يقوم برنامج تحليلي باستنتاج وصلاتها العصبية الأصلية بشكل ثلاثي الأبعاد.
هذا المريض كان مثيراً للاهتمام بصورة خاصة، فعلى ما يبدو أنه إضافة إلى أنه كفيف البصر، كانت الأعراض المصاحبة لكل نوبة من نوبات صرعه تشبه تجربة قرب الموت(2) النفق الكلاسيكي وفي آخره نور أبيض، والشعور بانعدام الوزن والسكينة. كان يبقى واعياً في كل مرة يمر بهذه التجربة. الخزع المأخوذة من فِصّيْهِ الجدارييّنْ كان من المفترض أن تكون ممتازة للتجربة، لكنها تلفت الآن، اللعنة، كل ذلك بسبب كمية فاسدة من الأصبغة الملوِّنة.
متنهداً، أخرجت الصفيحة من تحت عين المجهر، وتوجهت إلى حاوية القمامة الطبية، وتخلصت منها. كانت عقارب ساعة يدي تشير إلى السابعة واثنتين وعشرين دقيقة، أي أنني كنت متأخراً بالفعل ساعة عن الموعد الذي وعدت زوجتي بلقائها عنده. خلعت معطفي الطبي العتيق، وتناولت معطفي، وبعد ان أقفلت باب المختبر أسرعت أنزل الدرج ، كل درجتين معاً كالعادة، ووضعت بطاقة التعريف الإلكترونية في ثقب البوابة الأمنية، وغادرت المبنى. كانت السماء تمطر حينذاك. أضواء أعمدة الإنارة في الشارع كانت تعكس وهجها من على الرصيف المبتل. أضواء سيارتي الأمامية أنارت باتجاهي بصورة متقطعة حالما شغلت زر إزالة إجراءات الأمان عن بعد، وبعدها سمعت تكة الباب المُطَمْئنِةَ بعدما أغلقته.
أكاد لا أتذكر جيداً أول جزء من رحلة عودتي من المختبر إلى المنزل. كان تفكيري منشغلاً بالخزع الفاسدة. كم أسبوعاً تأخرنا بسبب ذلك الفشل؟ ضوءان مبهران أمام وجهي مباشرة. ربما أن كيس الهواء انتفخ أمامي في السيارة. ضجيج مريع يصم الآذان بدا وكأنه صادر من داخل جسمي. لوهلة أحسست بألم مبرّح .
بعد ذلك بدت ذكرياتي ضبابية. وأنا أفتح عيني لفترة قصيرة لم أشاهد إلا الظلمة. لم أشعر بألم. لكني أحسست بأن رأسي لم يكن على ما كان...كما لو أنه...تغير في الشكل. كما أني لم أستطع التفكير كما ينبغي، كما لو كنت مخدراً. لا شيء بدا منطقياً.
عجزت عن فهم ما كان يجري. بعد مرور فترة غير معروفة من الوقت، سمعت صوت امرأة، تتحدث إلى شخص آخر، كان لصوتها صدى كما يبدو، كما لو كانت في غرفة كبيرة. بدا صوتها هادئاً و ....مألوفاً. على مسافة قريبة جداً مني كنت أسمع صوت تكتكة وهَسْهَسَة ... تكتكة وهسهسة جعلت من صدري يرتفع وينخفض.
ظلام.
شعرت بيد تضغط على يدي. أعتقد أنني ضغطت تلك اليد أيضاً.
ظلام.
أصوات مرتفعة. بعض الضغط، مثل ضغط بعيد على صدري. بدا بعيداً جداً.
ظلام.
صوت امرأة، مخنوق، كما لو كان صادراً من وراء جدار. الصوت كان نوعاً ما مطَمْئِناً.
ظلام.
بدا أن عينيّ مغلقتان تماماً، لكن كان بوسعي الإحساس بحركة ما. كنت أُحْمَلُ إلى مكان ما، حاولت تغيير وضعيتّي، لكني كنت ملفوفاً بصورة ما ، بشيء ما ، أعجزني عن ذلك.
ظلام.
بدأت أستيقظ شيئا فشيئا. في كل مرة لم أكن قادراً على رؤية أي شيء، لكني كنت أسمع دوماً صوت المرأة المخنوق نفسه، ومن حين إلى آخر صوت رجل من بعيد. بدأت أحاول الحركة. أتلمسّ ذراعيّ وساقيّ بوهن. في بعض الأحيان كنت أحس بحركة كما لو أن شيئاً ناعماً كان يضُخَ داخلي. بشكل مغمغم أدركت أني لم أكن أتنفس! لكنْ بدا أن ذلك كان يصيبني بالذّعر.
فجأة تغير كل شيء حولي. أصبح صوت المرأة أعلى. كانت هناك أصوات أخرى. أشياء كانت تُدفعَ نحوي من الاتجاهات والجوانب كلها. كان يتم إخراجي من سريري كما يُعصَرُ معجون الأسنان من ماسورته. أحسَسْت برأسي ليِّناً كالبالون. كنت أشعر برأسي الصغير يتغير شكلاً بتأثير الضغط بينما يتم دفعي خلال فوهة بدت ضيقة وصغيرة للغاية. بدني كله تقلص بتأثير الضغط وتمدد كما لو كنت أحد الأبطال الخارقين المطّاطييّن. وبعدها....كان كل شيء مبهراً وبارداً بصورة تبعث على الصدمة. لم يكن بوسعي رؤية أي شيء إلا الضوء المبهر.
بشكل ما قُلِبْتُ رأساً على عقب وصفُعِْتُ على ظهري بشدة. سائل حار خرج من رئتيّ وأخذت أشهق شهقة من الهواء المتجمد البرودة. ومع هذه الشهقة جاء عالم من الروائح الغريبة عني كمنظر من سطح المريخ. كان الأمر فظيعاً.
زَرَّيْتُ عينيّ * وصرخت. ثم توقفت مندهشاً- الصوت الذي خرج من بين شفتي ... كان صرخة رضيع!!
قبل أن أعرف ما الذي كان يجري، تم لَفّي بقطعة قماش وإمساكي بقوة. عجزي عن الحركة كان مريحاً بصورة تدعو إلى الدهشة. رضيع ثان كان يصرخ في الغرفة. تساءلت من يكون، نُقِلْت من يديّ شخص إلى آخر. دفء في قطعة القماش. صوت المرأة التي تحملني. عيناي ما كانتا قادرتين على جعلي أراها، لكني كنت أعرف هذه المرأة. آخر مرة رأيتها فيها كان عمرها تسعة وسبعين عاماً. على سرير في أحد المستشفيات، تلفظ أنفاسها الأخيرة بينما كان السرطان يسَْتَلِبُها مني. كانت أمي. كانت شابة من جديد. بكيتُ.
حياتي بدأت من جديد، أيامي المشرقة مرت كما لو كان الواحد منها دهرا. كل يوم كان اكتشافاً جديداً لمحدوديّاتي وحيراتي. بالطبع شعرت بالحبور الكبير لرؤية والديّ وأختي على قيد الحياة وفي صحة جيدة مجدداً. لكنْ ومع تحول الأيام إلى أسابيع كان إحساسي باليقظة يزداد شيئا فشيئا، وكنت أتذكر من حياتي السابقة أكثر فأكثر. سمعت أصوات والديّ ، وعرفت أنهما لاشك يتحدثان الإنكليزية. رغم أنني كنت عاجزاً عن فهم ما كانا يقولانه. لكني كنت أذكر أني كنت إنساناً نشيطاً اعتاد الركض خمسة كيلومترات يومياً. وها أنا ذا أجد نفسي الآن عاجزاً حتى عن تحريك رأسي! لهذا كان عليّ أن أتعلم من جديد هذه المهارات كل يوم. اكتشف كيف أفكر في العالم حولي. أعيد تعلّم ألوان وروائح وأصوات كل شيء.
التعلم كان مجهداً لكنْ سريعاً، لأني لم أكن أفعل شيئاً عدا استرجاع ذكرياتي الموجودة. كل رائحة كانت تذكرّني بكون آخر من الذكريات. رائحة تفتحّ أزهار الكرز ترُدّني إلى الوقت الذي التقيت فيه حبيبتي سارة. رائحة البحر، ذكرّتني بعيد ميلادي الثلاثين في جزر هاواي، ورائحة الوقود النفّاذة، بموت أختي المأساوي عندما دهسها سائق مخمور بسيارته وهي لمّا تتجاوز الثالثة عشرة من العمر.
أمضيت ساعات مع توأمي، ألعب معها، لكن بشكل أساسي أتمَعّنُ فيها، أنظر في أي علامات تذكرّ بحياتها القصيرة التي عاشتها. كنت متأكداً أن لديها أيضاً بعضاً من مثل تلك الذكريات. لكن دون وسيلة اتصال معها لم أستطع فعل شيء عدا التحديق فيها. هل كانت ابتسامتها تعني أنها كانت تفهم أفكاري؟ هل كانت تلك الدموع تنُمّ عن الجوع، أو عن الغضب لموتها بعد سنوات قليلة من الآن؟ هل كان تفرّدها الأناني بدُماي تعويضاً عن قصر حياتها مأساويةِ المصير؟ ومع تحول الأسابيع أشهراً حوّل الإحباط مزاجاتي متقلقلةً و مليئة بسَوْراتٍ وفوراتٍ دونما سبب، فمع كل تجربة جديدة كانت تتحرر الكثير من الذكريات القديمة التي كانت تذكرّني بما فقدْ تُه ، لكني لم أكن قادراً على أن أكلم أحداً.
مؤخراً، بدأت الأمور بالتغير. ذكرياتي السابقة صارت تفقد إلحاحيتّها، وتذوي. كلما تقدّم بي العمر، بدا أن تجاربي الجديدة تحل محل مستقبلي الضائع. أجاهد لأتذكر كيف كنت أرعى والدي خلال فترة صراعه الطويل مع مرض الخرف المبكر ( الزهايمر)، لكنّ ما أذكره بشكل رئيسي هو ذلك الأب الشاب الذي يلاعبني بدحرجة الكرة إليّ. ذكريات ملاعب طفولتي في الأمس تبدو الآن أكثر واقعية وحيوية بكثير من ذكريات ما سأكون عليه في المستقبل.
إذن، ها أنا ذا هذا الصباح، عمري لم يتجاوز السنتين، لكن بذكريات مهشّمةَ مبعثرة لعالم أعصاب من القرن الحادي والعشرين يبلغ من العمر سبعة وخمسين عاماً. جالساً على العشب في حديقة منزل والديّ الخلفية، ألعب بمطرقة بلاستيكية لا أستطيع الإمساك بها كما ينبغي. تراودني أفكار ينبغي أن تكون فوق حد مقدراتي. مجدداً أرمق أختي بنظرة.
لو أنها كانت تستطيع النطق، ماذا كان عساها تقول؟ هل تركض في نفس السباق كما هو حالي؟ أتحاول أن تعيد تعلم الكلام قبل أن تفارقها ذكريات ماضيها - أو ذكريات حياتها المستقبلية؟ أنا بالفعل أجد من الصعوبة إلى حد يدعو إلى اليأس أن أتذكر ما أريد قوله للعالم. هل كان شيئاً يتعلق بالوعي، أم كان يتعلق بقدرتي على ركل كرة قدم؟ عندما يدوم اليوم إلى الأبد، تبدو معه التساؤلات عميقة المعنى أقل أهمية من معرفة طعم ورقة شجر .
أستجمع نفسي مجدداً. يجب عليّ أن أتذكر. علي أن أحاول. أتذكر ماذا؟ شيئاً عن الماء؟ أعبس محاولاً جعل مخي الصغير يفكر بوضوح أكثر. البارحة كنت أراقب تموجات الماء في حوض استحمامي تنتشر إلى الخارج وترتدّ عن جوانب الحوض وتتمازج مع بعضها. بينما كنت أراقب، فكرت: هذا أنا. حياتي سلسلة من أحداث تشبه تموّجات الماء التي تنتشر بعيداً عن مركزها وترتد عائدة إليه، مرة تلو مرة تلو مرة، إلى الأبد. هذه الأحداث تشكل أدمغتنا منذ البداية. الآن صار عندي هذا الإدراك. مخي، مخي الرضيع، مثل مخ أي طفل صغير، يغصّ بخلايا عصبية، أو عصبونات، ووصلاتها، أكثر بكثير مما سأحتفظ به كشخص بالغ. لكن لو كانت أحداث حياتي كلها موجودة أصلاً في مخي، فهل يعني هذا أنّي سبق وعشت حياتي هذه نفسها عدداً لا متناهياً من المرات، وسأواصل عيشها إلى الأبد؟ لا أحد يستطيع أن يعيش حياة شخص بالغ طبيعية مع هذا الكم من الذكريات المتراكم بصورة لا نهائية.
ولهذا، أسمح لنفسي أخيراً أن أفهم، أنني مُبَرْمَجٌ مثل الجميع على نسيان هذه السنوات السابقة، وبسبب فقدان الذاكرة هذا، أنسى أنني خبرت كل ثانية من كل دقيقة في السابق. لكي أتكيف مع حياتي الأبدية، علي أن أعتقد أن هذه أول مرة أحيا، في كل مرة.
مصاباً بالصدمة، أسقْطِ مطرقتي البلاستيكية على العشب. أنا أحمق. لن أغيرّ العالم أبداً بإعلان طفوليّ سٍخيف ما. أعرف ذلك لأنني ما أزال قادراً على تذكر طوفان حياتي حتى مع انمْلِاص التفاصيل نحو الضياع من بين يديّ المقبوضتين. أتذكر بالفعل انسياقي طوال حياتي لفهم المخ والوعي. سوف أنسى الحقيقة، لكن سأحتفظ بدافع لا واع لأخبر تلك الحقيقة. سوف أصبح عالما في مجال الأعصاب، وأكرّس حياتي المهنية لحل المسألة التي كنت أعرف جوابها منذ كان عمري ثمانية عشر شهراً.
نحلة أخرى تئِزّ مارة قرب رأسي قاطعة حبلَ أفكاري. بماذا كنت أفكر. آه، نعم. ألتقط مطرقتي البلاستيكية. أبي سيعجب بي إن استطعت الطرّقَ على الوتد الأزرق. إلى جانبي تلعب أختي ببعض المكعبات الخشبية التي عليها أحرف، ترتّبها بصورة خرقاء على صف واحد. لا أحد منا يستطيع قراءة الكلمة التي شكلّتها بهذه الصورة.
بينما أطرق بِخُرْق بمطرقتي، أحس بإدراك ضبابي بأن مخي يواصل نموه الطبيعي فاقداً المزيد من العصبونات، والمزيد من الوصلات العصبية. ذكرى شيء كتبه آينشتاين ذات مرة في رسالة تدور في خلدي:
«لا أحد يضيع أبداً. كل واحد منا سيبقى موجوداً في منطقة معينة من الزّمكان (الزمان - مكان) محفوظاً تماماً كما لو كان عالقاً في قطعة كهرمان. »
ما لم يتذكره عالم الفيزياء الشهير، عندما كتب هذه الكلمات ليُرَوّحَ عن أحد أقربائه الذي فقد عزيزاً عليه....ماذا كان اسم عالم الفيزياء مرة أخرى؟.... هل يا ترى أن وعيه عالق أيضاً في قطعته الكهرمانية من الزمكان، محتوم عليه أن يخرج من فقاعة، ليدخل أخرى، إلى الأبد؟ قطعة الذاكرة تذوي... ثم تتلاشى...

العنوان الأصلي للقصة :
Loop: Being ‘born again’ sounds like a great idea until it happens

نبذة عن الكاتب :
بيتر جي بينتلي Peter J.Bently
من كتاب العلوم المبسطة وهو عالم يعمل في قسم علوم الكمبيوتر في جامعة كوليدج في لندن. أستاذ زميل في المعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا. حصل على الدكتوراه عام ستة وتسعين، في سن الرابعة والعشرين، في الحوسبة التطورية المطبقة على التصميم، والتي تدخل في اللوغاريتمات التطورية،الروبوتات، الفن، التحكم، الأمن المعلوماتي، التصميمات المتطورة، الحوسبة المتطورة، الأنظمة المناعية الاصطناعية، ومجالات معقدة أخرى. القصة نشرت في مجلة «كوزموس » العلمية الأسترالية في كانون الثاني/يناير 2008 .
*جمعتهما وأغلقتهما وفتحتهما لأنظر بشكل صحيح دون أن يتعكر المنظر أمامي.

مجلة الأدب العلمي العدد الثامن ملف الإبداع

0 comments: