Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

الزائر (الزيارة الثانية) ...الأدب العلمي العدد السابع عشر


سامر منصور

هبطت على هذا الكوكب هبوط قطرة المطر وسط البحر فما ارتدت عني ذاتي ، بل شعرت بانسجام هائل مع ما حولي ولساعات عدة فقدت إدراكي لاستقلالية كياني وبتُ مسامع وأبصاراً وبصائر وملامس يتخللها الجمال كما يتخلل السحاب السحاب .
كان كلُّ ما حولي كلحنٍ من نايٍ حملته نسائم الألوان و نحتت نغماته أيادي الجمال.. فطارت أعماق روحي إلى هذا اللحن الذي نسج حولي سعادةً غريبة لم آلف لها مثيلاً ، سعادة لدرجة الشجن وما كنت أدري من قبلُ أن الشجن من درجات السعادة.. وفجأة أبى شيءٌ غريبٌ أن يعبر مداركي بسلام فأعاد لي الاحساس بذاتي .. لا بل شعرت أنني انتزعتُ من كياني الأكبر وقذفتُ في شكلٍ صغيرٍ لثمتهُ بعض الألوان فاصطبغ بآثارها.
شعرت بقشعريرةٍ غريبةٍ وكأن وتراً قُطعَ فخنق لحناً فياض العذوبة .. كان ذلك الشيء هو قوقعة غريبة .. قوقعة هي أكبر أصداف وقواقع هذا الكوكب .. فلا مثيل لها في عتمة البحور ولا في أغوار الأرض حيث لا يصل النور.. كانت ماثلة أمامي كنغم مبتور..
دخلتها فعرفت لكلمة (العمق) معنى جديداً.. خلت أنني لن أرَ فيها شيئاً ولكنني لما استعنت بنور الوجود ساطع العمق عميق البهاء ، أحطتُ ببعضِ أبعاد هذه القوقعة وتبينت فيها شيئاً .. ظ أسود هزيلاً يرتعش.. فدنوت منه وسألته: من أنت؟ فنهض إليَّ وقال بصوتٍ ثقيلٍ عضَّ على مسامعي .. «أنا سيد مخلوقات هذا الكوكب أجمعين .. أنا الإنسان . »
فقلتُ لهُ: صف لي نفسك فهذه القوقعة لا ينفذ إليها ما يكفي من نور الوجود.. رغم أنه صارخٌ في سطوعه .. إن صورتك تتماوج أمامي ولا أستطيعُ أن أتبين جوهرك.
فأجابني بغرور وتلعثم قائلاً: أنا ..أنا..
أنا لا يوجد شيءٌ مثلي في هذا الوجود حتى أشبِّه نفسي به ، وليس ذنبي إن كان بصرك و بصيرتك أوهن من أن تراني.
وفجأة اضطرب هذا الظل وأخذ يثب ويتمتم .. نظرتُ من خلال جُدران القوقعة فشاهدت الطبيعة تتمطى و تتثاءب وتنفض عن منكبيها بعض الكائنات الحية ، وما كانت الطبيعة لتطوي جزءاً من صفحة الحياة إلا لتنشر صفحاتٍ أخرى للحياة أكثر بياضاً وأوسع مدى.
وثب الظلُّ والجزعُ لبوسهُ وهتف قائلاً: الزلازل ، البراكين ، الفيضانات .. عليَّ أن ألوذ بدرعي كي أنجو. قلتُ له: إنك في قوقعة وإنك جزءٌ منها.
فأجابني: لا قواقع ، إنه درعٌ عظيم وهو في داخلي وهو جزءٌ مني عظيم الشأن ، سيجعلني دوناً عن كلِّ تلك الكائنات آمن غضب الطبيعة.
لم أفهم لماذا وصف الطبيعة بالغاضبة !! صمت ذلك الظل الهزيل للحظاتٍ ثم أردف قائلاً: انظر إلى درعي إن فيه ثقوباً كبيرة ذلك أنه خرج من رحم بحور الجهل المشبعة بملح الضعف.. إن درعي كما ترى هرئ والجهل يتأكله.. وأسمى عمل يمكنني القيام به هو تقليص تلك الثقوب حتى تختفي ولكنَّ هذا سيحتاج إلى وقتٍ ليس بقليل.
قلتُ له: أنت كائنٌ عجيبٌ و لا أستطيع إلا أن أراقبك من فوق أمواج الفضول آملاً أن تصل بي تلك الأمواج إلى صخور الحقيقة الصماء .
ولبثتُ زمناً أراقب ذلك الظلَّ المرتجف داخل قوقعته التي بالكاد تُرى في بحر الوجود.. ظللت أراقب ذلك الظل الذي كان كالبلية(1) بين أنامل الشك التي كثيراً ما امتدت عبر ثقوب قوقعته.
لطالما أصغى الظل المضطرب إلى صدى أفكاره المغرورة و قال: أنا أسمع وحياً من السماء.
وهكذا قدّس ذلك المسكين الصدى فما اهتدى. وفي ذاتِ ليلةٍ قال لي الظلُّ وهو يشيرُ إلى أحد الكائنات في الخارج: ياله من كائن قبيح وشرير. فسألته عن معنى آخر كلمتين قالهما، فأجاب: القبيح هو ما تتمنى زواله من الوجود فالقبيح ضدُّ الجميل.
أما كلمة شرير فقد حاول الظل مُستهلكاً معظم الكلمات التي يعرفها أن يفهمني معناها لكنني لم أفهم ، وقال في جملة ما قال أنها ضدُّ كلمة خير لكن حتى تلك الكلمة التي استعان بها كانت تبدو مبتدعة وغريبة.
حاولت أن أفهم الظل المسكين أنه مخطئ وأن جدران القوقعة قد حرفت صورة الوجود.. حاولت أن أفهم ذلك الظل أنني حين كنت خارج القوقعة كنت أرى الوجود دائرة متصلة .. سِوارٌ على معصم الكمال وليس عِقداً صُبغت بعض حباته بألوان الشر والقبح والباطل والضعف والأخرى بألوان الخير والجمال والحق والقوّة.. لكن عبثاً كنت أحاول .
غدا الفراقُ بيننا وشيكاً حين أخذ الظل يضحك ويقهقه بصوتٍ مُزعج كجبل ينهار وما كان ضحكه الصاخب إلا لتقلُّص الثقوب السوداء التي في جدران قوقعته - ياله من مسكينٍ ذلك الذي يرتدي خُفي الغرور فيخال أن قدميه قد وطئتا قمة الوجود – سألت الظلَّ مراتٍ عديدة عما يراه في هذا الوجود.
أشرت ذاتَ مرة إلى قطعة أرضٍ مُشجرة وسألت الظلَّ ماذا ترى؟
فأجابني: أرى عاموداً وإلى يمينه دائرتان . فطلبت منه إيضاحاً.. فقال: أرى 100 شجرة سبعٌ وثلاثون منها مثمرة وثلاثٌ وستون منها تصلح لصنع الأثاث. يالذلك المسكين.. كان يرى كلَّ شيءٍ أرقاماً ، وكان جلُّ طموحهِ زيادة الأرقام منازل.. كان يرى الكائنات أرطالاً من اللحم وأمتاراً من الصوف والفرو وزينة من عاج.
لم يكن يُبدي السعادة بأقصى درجاتها لمنظر الشمس .. الخال (2) الوهاج.. على وجنة السماء تهمُّ شفتا البحر بها لثماً قُبيل أن يُسدل ستار الليل.. بل كانت سعادته القصوى وأعمق أحزانه و أرزائه رهن الأرقام ، حتى وإن لم ينقصه شيء فإن جلَّ سعادته كانت في ازدياد تلك الأرقام التي ابتدعها بغية أن يمتلك الوجود بها ، وما الملكية إلا احتكار..
فأيُّ نغمةٍ تلك التي تسعى لاحتكار كلِّ نَفَس في الناي العظيم؟ غادرتُ قوقعة العقل البشري ونظرت إليها من الخارج فتبين لي أن الثقوب السوداء لم تتقلص بل القوقعة بأسرها انكمشت مع الزمن ولم يشعر الظل المسكين بانكماشها.
وأعجب ما رأيت خارج القوقعة وعلى مقربةٍ منها كان كائناً جليلاً - في أحسن تقويم - وأغلب الظنِّ أنه الإنسان .. ولكن يا حسرة عليه فقد كان جامداً بارداً.. ولعله فقد روحه و فقد القدرة على التمييز بين كيانه المهيب وظله الرهيب ، فبات كيانهُ أسيرَ ظله المترسب داخل قوقعته..
تلك القوقعة العجيبة والتي تشكل العقبة والطريق معاً .. غادرتُ الكوكب وأنا أهيب يا أيها الإنسان احمل عقلك وأصغي به إلى ترانيم بحر الوجود .. ولا تجعل عقلك يحملك إلى الوهم والعبث و الأنانية .. لا تجعله يحملك إلى الفناء.
(1):كرة بلورية يلهو بها الصغار
(2):شامة . 


0 comments: