Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

فيلم ترددات المعرفة تحدد مصير القدر ....الأدب العلمي العدد الثاني والثلاثون


جينا سلطان

تصطدم رؤيتنا العلمية لماهية العلم، ودوره الخفي في تنظيم مسارات حيواتنا المتداخلة، بمتاهات فلسفية شتى،تغرقنا في دوامة أفكار متصارعة ذات اتجاهات متشظية. وهو ما يولد لدينا خداعاً عقلياً، يحرف منظار الحياة عن وجهته الحقيقية، التي يفترض بها أن تقودنا إلى رؤية التكامل المتناسق، بين عوالم الإنسان الداخلية الغامضة من جهة، ومحيطه الخارجي، الذي يتفاعل معه من جهة أخرى . وإدراك هذا المفهوم والتماهي معه هو غاية المعرفة في اتساقها وسعيها نحو الكمال الإنساني، من أجل اكتشاف الذات ودورها المتفاعل مع بيئتها .
وقد عزا الفيلسوف اليوناني فيثاغورث النقص في المعرفة لدى الإنسان إلى محدودية تواصله مع العالم، ضمن مدى إدراكه وفهمه لما حوله. وحسب رؤيته، فإن قبس الإله يتجلى لكل نفس عٍاقلة ضمن أبعاد معرفتها له فقط، أي أن الروح الواسعة المعرفة الحكيمة هي "النبية لحقيقة الإله والانسان الجدير به يكون "إلهاً بين الرجال".
وأشار فيثاغورث إلى أن أهمية الموسيقى في إعادة ترتيب الأفكار، وبث التناغم كعلاج ناجح لفوضى العقل والجسد، تتأتى من كونها صادرة عن الإله نفسه، الموسيقي الأسمى، فهي تنشط الروح، وتتعادل مع صفاء الحقيقة وجلائها للمعنى، مما يجعلها لغة إنسانية عالمية،يفهمها الجميع بشكل متساو.
وحذر فيثاغورث طالب المعرفة من خطورة التأمل العميق للأمور في ضوء استنارة ناقصة، لأنها تزوده بإحداثيات خاطئة، وتقوده إلى برهان مضلل. والضوء الناقص هو العلم المزيف، الذي يتجلبب بعباءة مثاليات شكلية، تقترن بآلية طقسية مفرغة من معنى الاتساع الوجودي الخلاق.
تعطينا هذه المقدمة الموجزة عن بعض أفكار فيثاغورث الخلاقة لمحة قريبة من المنظور الفكري والعلمي للفيلم البريطاني: "الدليل " OXV: The Manual ، أو "ترددات " Frequencies الذي تفتتحه عبارة "المعرفة تحدد مصير القدر " ، وهو من كتابة وإخراج وإنتاج دارين فيشر DARREN PAUL FISHER ، ومن إنتاج عام 2013 .

التأرجح الإنسان بين الترددات
إذا أمكننا أن نعتبر الإنسان مزيجاً متداخلاً من كتلة مادية وطاقية، ذات ترددات موجية متدرجة من العالي إلى المنخفض مروراً بالمعتدل منها، نقترب عندها من تفهم فرضية "فيشر " المثيرة للتساؤلات، التي ينهض عليها فيلمه. ويرى فيشر أن الأفراد ذوي الترددات العالية جداً لديهم قابلية انعكاسها ذكاءً مرتفعاً، لكنها تقترن بغياب أدنى مقومات المشاعر، وكل ما يمت بصلة إلى العواطف الإنسانية. وبالمقابل، يتميز الأفراد ذوو الترددات المنخفضة جداً بانفعالاتٍ عاطفية قويةٍ تترافق مع ذكاء خافت، وفي نفس الوقت يملكون قابلية تمييز الأنماط المتكررة بوصفها قوانين ثابتة، سواء بالنسبة للحوادث الفيزيائية في الطبيعة أو للحالات الانفعالية لدى الإنسان. وبالتالي، يتسبب الالتقاء بين شخصين يمثلان الحالتين الحديتين، العليا والدنيا، بفوضى عنيفة ضمن المجال الحيوي المحيط بهما، فيستحيل استمراره لأكثر من دقيقة واحدة.
تدور أحداث الفيلم الأساسية بين أروقة أكاديمية، تتبنى طلاباً متفوقين، يتم سبر مستوى قدراتهم العلمية عبر اختبارات خاصة، تحدد نسب ذكائهم، وطبيعة الأبحاث التي سيوجهون بالتالي للعمل عليها. وللتعبير عن أفكاره، يستحضر فيشر لطلابه أسماء علماء معروفين، مثل اينشتاين، أديسون، تسلا، اسحاق نيوتن، وماري كوري، إضافة إلى الموسيقي ثيودور شتراوس. فيعطي لماري كوري مكتشفة الراديوم، المتميز بطاقة إشعاعاته العالية، معدل الترددات الأعلى، الذي يتجاوز الحد الطبيعي بعدة درجات، ويترك لنيوتن، الذي اكتشف قانون الجاذبية الأرضية بحادثة سقوط التفاحة، معدل الترددات المنخفضة جداً، التي تنقص بسبع درجات عن الحد الأدنى، بينما يحظى شتراوس وحده بمعدل الترددات المتوازنة. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن تمييز نمط التكرار  اختص به نيوتن وحده في الفيلم  هو المبدأ الذي تسند إليه المعرفة القائمة على الإدراك أو ما اصطلح على تسميته بالبصيرة.

تفاحة نيوتن وأثر الفراشة
يرصد المشهد الأول مجموعة من التلاميذ الصغار، يصطفون بانتظام في رواق الأكاديمية، بينما تتدحرج بين أقدامهم تفاحة نيوتن الخضراء، رمز اكتشاف الجاذبية الأرضية، وتستقر عند قدمي ماري كوري، التي تلتقطها وتبتسم بميكانيكية آلية، دون مشاعر حقيقية. فيتشجع نيوتن على الاقتراب منها في حديقة الأكاديمية، ويدوم اللقاء معها دقيقة واحدة، قبل أن تنهمر السماء الصافية مطراً شديداً فوق رؤوسهم، تعبيراً عن الاختلال في الجو المحيط بلقائهما، وحين يفترقان تعود الطبيعة إلى سابق عهدها من الاستقرار.
ومباشرة، نلمس تباين المواقف بين ماري كوري ونيوتن، إذ تبدو الفتاة واثقة جداً من نفسها، ومؤمنة بقدراتها الذاتية، بينما يرتسم على وجه الفتى تأمل شاعري ممزوج بالصبر. وهذا المشهد سيتكرر ثلاث مرات، وفق تقنية "أثر الفراشة التي تستند إلى إضافة تفصيلات صغيرة جديدة كل مرة، كي يتطور الانطباع العام حول تجربة اللقاء نفسها بمراحلها الخمس. ويترك بين مرحلة وأخرى زمن كافٍ لبلورة شخصية كل منهما، وانتقالها من الطفولة إلى المراهقة، وصولاً إلى سن الرشد، وانتهاء بالنضج العقلي لديهم، المرتبط بالحصول على إجازة الدكتوراه. وخلال محاولات اللقاء المستحيل علمياً، تتفاوت ردات الفعل بين الطرفين، إذ تندفع ماري دائماً لإشباع فضولها العلمي، فيما لا ينفك نيوتن عن ملاحقتها بحبه المشتعل.

الذكاء والتصحر العاطفي
من خلال الحوارات المتعددة المبثوثة في الفيلم، نلاحظ أن ماري كوري لا تحمل شخصية فردية خاصة بها، وبالتالي لا تدرك معنى الانتماء إلى الأسرة، أسوة بأقرانها من ذوي الترددات المعتدلة نسبيا. لذلك، تتصنع الحركات الإنسانية، المعبرة عن التواصل الاجتماعي، بعيداً عن العفوية، مما يقربها من الآلة الميكانيكية أو برامج الذكاء الصنعي.
وبينما تحرص هيئة الأكاديمية العلمية على أن تحظى ماري كوري بطموحها، وتكريس حياتها للأبحاث العلمية، ينشد والداها لها فسحة إنسانية، تخفف من تصحر مشاعرها وعواطفها، ومن تبعات عزلتها الاجتماعية الباردة.
ونلمح في تفاصيل شخصية ماري كوري، المكتوبة بعناية كبيرة، إشارة واضحة إلى النتائج الخطيرة الناجمة عن غواية تقديس الذكاء لدى الإنسان، على حساب سلبه المشاعر الطبيعية، كالفرح والحزن، والألم والحب، والصداقة والكراهية، إذ إن تصارع هذه العواطف في عوالمه الداخلية هو ما يفعل الملهاة الإنسانية بين شرطي الجبرية والحرية.
ويشير ارتفاع التردد في حالة ماري إلى انخفاض العاطفة، وتعاظم الفرص المفتوحة أمامها في الحياة، مما يؤدي إلى تراجع حظوتها عند الآخرين، بسبب الغيرة والحسد من ذكائها الحاد. وتفسر هذه الثغرة العاطفية لديها، اختراعها جهازاً يقيس ترددات مشاعر  النساء والرجال، التي تنبض بتوافقية عند تبادلهم الحب الحقيقي، كما تبثه الطبيعة،
لكنه يفشل في تحقيق تأكيد الانسجام في حالتها مع نيوتن، إذ تتنافر تردداتهما كقطبي مغناطيس عند كل لقاء بينهما.

عبقري محاط بالموهوبين
تصنف الأكاديمية نيوتن الودود بأنه غير مؤهل للاندماج في الحياة الطبيعية، بسبب التردد السلبي الذي يحمله، مما يحرمه برأيهم من ملكة القدرات العقلية الخاصة، التي تميز أقرانه في الأكاديمية، وتضعه بالتالي في مرتبة أدنى منهم. ورغم ذلك يقرر البقاء فيها لأجل ماري كوري، فيجد نفسه مضطراً دوما لطلب المساعدة من صديقه ثيودور شتراوس، الذي ينظم سلسلة الاختبارات لتحسين احتمالات اللقاء المستحيل بين العاشق ومحبوبته حتى تتجاوز الدقيقة. وتدريجياً، يوجهه شتراوس نحو اكتشاف الأنماط في الحوادث الفيزيائية التي تتكرر في الطبيعة وفق قوانين ثابتة، انطلاقاً من عزف الإيقاع الموسيقي الكلاسيكي على البيانو، الذي يؤهله لالتقاط نمط التكرار عند تصادم الترددات العظمى والصغرى، فيقترب من تحقيق الانسجام بين الترددات المتنافرة.

تناسب الاختراع مع شخصية صاحبه
تفسح نماذج الاختراع، التي فرضتها الأكاديمية على طلابها العباقرة، المجال لاستبطان الشخصية الخاصة لكل منهم، وفي الوقت نفسه نوعية الفخ الذي يتخبطون فيه، نتيجة الفراغ الداخلي المتأتي عن إحساس النقص.
تقود أبحاث نيوتن عن الأنماط المتكررة إلى الاشتغال على موضوع «السخرية »، التي يعرّفها بوصفها مظهراً مادياً كامناً في كل ذرة من الكون، ويخلص إلى نتائج مفادها أن الأشخاص ذوي الترددات المنخفضة هم الأنسب للسخرية منهم قياساً بالآخرين. وأن تنشيط الجسيمات الساخرة يتم من الدماغ، عندما تتولد الرغبة أو شعور الاستحواذ لدى الإنسان. وبالتالي، تنشأ عند استبدال التعقل بالمادة، سلسلة من التناقضات بين العمل أو التعبير من جهة، والسياق أو المسبب من جهة أخرى. ورغم أهمية مشروعه البحثي يُتهم نيوتن من قبل لجنة الدراسات العليا بالغرق في الفوضى، ومخادعة القدر، ويتم استبعاد ثمرات جهده.

مرآة القدر
يخترع شتراوس جهاز محاكاة لمرآة القدر، التي تعكس صيرورة الحياة في مسيرها وتنوع حوادثها. ويمثل الجهاز نموذجاً تخيلياً للعالم، يستند رياضياً إلى قانون واحد يتكرر باستمرار، رغم أنه يعطي أجوبة عشوائية فوضوية في الظاهر، ذات نمط معقد بشكل لانهائي لدى انعكاسها في الواقع. وبذلك، ينجح شتراوس في تمييز شيفرة الحياة، لكنه يحاول أن يثبت من خلالها أن البشر هم آلات معقدة، لا تملك أرواحاً أو إرادة حرة. وكتطبيق مباشر لهذه الفرضية، يتخذ حالة نيوتن وماري كوري نموذجاً، ويعمل على تطوير اللقاء المستحيل بينهما ليتجاوز الدقيقة الحرجة، رغم اختلاف تردداتهما. لكنه يبقى في خلفية المشهد بوصفه المحرك الخفي أو الفاعل المحرض، بينما نيوتن المُوحى إليه يتلقى الإشارات بشكل خفي كمنفعل، ويتصرف بموجبها كي ينجح اللقاء.

فرضية اللقاءات المتكررة
تقوم الفرضية على تكرار تجارب اللقاء بين ماري كوري ونيوتن، لمعايرة الترددات بين الحدين الأعلى والأدنى لديهما، وجعلها قريبة من بعضها البعض، وذلك عبر عملية تبادل الطاقات فيما بينهما، كي تستعيد ماري ملكة الإحساس الإنساني المفقودة لديها. فقد كان نيوتن، المصنف بغير الطبيعي والمتوازن في نفس الوقت، هو الوحيد الذي يمكن أن يجعلها طبيعية، وهي الوحيدة التي تجعله طبيعياً.
وبما أن ردود الفعل السلبية تبني حلقة ذاتية التعزيز، لذا أعطت الملامسة الجسدية بين ماري كوري ونيوتن تأثيراً أولياً، لكنه لم يدم سوى لحظات فحسب. ثم تحسنت النتائج عبر إشراك الموجات الصوتية للكلمات المتغيرة باستمرار في التجارب، وهي كلمات بمقطعين ذات إيقاعات صوتية لا تحمل معنى محدداً، وإنما تأثيرات طاقية، فأحست ماري بكثافة المادة داخل جسدها، وشعرت لأول مرة في حياتها أنها متصلة بنفسها. وتدريجياً، بدأ الحب يتسلل إلى وعيها، حتى استغرقها مع دخول الاتصال الجسدي بينهما مرحلة الكمال، عندئذ فقدت حظوتها التلقائية في نيل كل ما ترغب به والمرتبط بذكائها، وأضحت امرأة طبيعية.

فيزياء توازن الطبيعة
يعتبر فيشر أن طريقة تفكير الإنسان تؤثر على تردداته الخاصة، عبر طاقة الكلمات التي يلفظها ويعبر بها، أو يسمعها متلقياً. فطاقة الكلمات توازن الترددات عند اتصال الأجساد مع بعضها البعض من جهة، ومع الوسط المحيط بها من جهة أخرى. ويشابه دور الكلمات في الفيلم مع سائل يملأ الكؤوس الفارغة بنسب متساوية، مما يدفعها بالتالي إلى الرنين المشترك بانسجام.
ويشبه "فيشر " الأشخاص بمكونات عضوية، تملك ترددات منخفضة، وقد تحتم عليها التواجد في مسار كينونة طاقية عالية التردد. لكن الكلمة الصادرة عنهم تلعب دور الوسيط، الذي يتغلب على التنافر القطبي بين الطرفين الحديين المتناقضين أو المتعاكسين، مع الأخذ بعين الاعتبار حتمية تغير الكلمة وفقاً لتبدلات البيئة المحيطة. ويشير، اعتماداً على قوانين الفيزياء الكمية، إلى أن التذبذبات الصوتية مع الكلمات تصنع الحدث، الذي يتمثل باللقاء في حالة ماري ونيوتن. ثم تشرع العمليات العقلية والجسدية بعد ذلك في العمل بوقت واحد كلعبة الدومينو، فتولد التأثيرات المتبادلة بين جميع الأطراف للتأقلم بشكل لامحدود، سواء بين الأشخاص أو مع البيئة المحيطة.
وبما أن الانتخاب الطبيعي يعكس نفسية الفرد بالدرجة الأولى، ومدى قابليته للانسجام مع توازنه الداخلي والخارجي المحيطي، لذلك لا تستطيع كلمة واحدة أن تحدث التغيير الدائم المنشود، وبالتالي، لا بد للطبيعة من كلمات متدفقة باستمرار، تملأ تصادم الترددات المتخالفة، فيترتب على البشر خلق الكلمات، وتجديدها على الدوام.

التجسد المادي للكلمة الوسيط
يصمم شتراوس جهازا صغيراً مساعداً يشبه الموبايل، يقيس التغييرات الطارئة على ترددات المكان، الذي يتحرك فيه الأشخاص عموماً، ونيوتن وماري كوري خصوصاً، ويحدد الكلمات التي من شأنها إعادة التوازن بينهما. وبمساعدة هذا الاختراع يرسم متاهة العالم، كي يرسي توازناً حقيقياً بين جميع الأشخاص، مما قد يضع نهاية للنزاعات والحروب، ويحقق العدالة الاجتماعية للمتخاصمين. لكنه في الوقت نفسه، وعبر استخدام الكلمات، ينتزع العفوية والتعقل من السلوك الإنساني، ويلغي دور الاصطفاء الطبيعي للأفعال وردود الأفعال، أي أنه يسلب الإنسان حرية الإرادة، وثمرات المقاومة واليقظة. وقد جرّت سعادة ماري النسبية، المحققة بمساعدة هذا الجهاز، التشيكك بدوافع نيوتن، فاتهمته بمحاولة تسييرها، وأسرها في متاهة مشاعر وهمية تحت تأثير طاقة الكلمات.

"الدليل"
تستولي وكالة حكومية على الجهاز الصغير، وتتحقق من عدم تورط نيوتن بسرقة تصاميمه، أو تسريب مبدأ عمله، ثم تحوله مع زملائه الباحثين إلى موظفين حكوميين تحت المراقبة، ملزمين بقانون الأسرار الرسمية. ثم تكلفهم بإيجاد طريقة للتخلص من تهديد التكنولوجيا المرتبطة به، عبر طاقة الكلمات، والمعروفة باسم "الدليل ". أما بحث "السخرية " الخاص بنيوتن، والذي لم تقبله لجنة التقييم العلمية سابقا، فيحظى بتقدير عال منهم، لكنه يمنع من التحدث مع الآخرين، بذريعة استغلاله في الخداع. ويتضح لاحقاً أن السبب وراء حجز نيوتن وعزله عن بقية الباحثين، يتمثل في تردده الذي يعيد تشييد ذاته باستمرار، مما ينعكس تأثيراً إيجابياً على الآخرين.
يتشابه "الدليل" بمفهومه الضمني مع المعرفة المتوارثة من العصور القديمة، والمتوارية بين طيات الرموز والإشارات، التي اقتصر تداولها في البداية على النخبة، ثم سقطت شذرات منها في أيدي أفراد الشعب، فكانت تضيع، أو تُحرق أوراقها، أو تُمحى حروفها، وُيعاد كتابتها من جديد. ثم استخدمها الحكام لقيادة الشعوب، التي قاومت المكننة والتحول إلى آلات، فسادت الفتن والحروب وعمت الفوضى.

الموسيقى ومضاد الدليل
في عزلته المراقبة من الوكالة الحكومية، يستعرض نيوتن الأنماط التي تشكل القوانين الناظمة، والأعراض الجانبية الناتجة عنها: بدءاً بشعار الأكاديمية «المعرفة تحدد المصير ،» ومروراً بحالته الخاصة، كعبقرية بسيطة بترددات منخفضة، تستدعي الحاجة إلى المساعدة، وانتهاء ببحث «السخرية »، الذي يستدعي إلى أذهاننا موضوع التجهيل الذي يمارسه الحكام على المحكومين. ومن خلال ترصد شيفرة موزارت في معزوفاته، يستنبط مفهوم "مضاد الدليل المتمثل في الموسيقى لإيقاف تأثرات الدليل. وضمن مفهوم "مضاد الدليل تمتص الموسيقى فائض التوترات، وتعادل أثناء العزف بين الترددات المتنافرة، وتعالج تصدعات الحشود البشرية الضخمة، التي فقدت بمرور الوقت ارتباطها بالروح، مذ فضلت نهج التبعية على التفكير الواعي ومعرفة الذات، وأصبحت آلات مفرغة من السلوك الإنساني الطبيعي.

كمال المعرفة
اتخذ "فيشر" حالة ماري كوري نموذجاً على الذكاء الصنعي المتقدم، الذي يفتقر إلى الإلهام والعفوية والإرادة الحرة والخيال. وترك مساحة جيدة لمناقشة مفهومي الجبرية والحرية، اللتين أسقطها عن شخصية شتراوس، حين ميزه بامتلاك المعرفة المتكاملة، المقترنة بالترددات المتوازنة. وبذلك أسند له دور مراقب أعلى، يرى الانعكاس اللانهائي للقدر عبر المرايا المتداخلة، دون أن يجرده ذلك الاكتمال من انفعالات الغبطة والسعادة عند مراقبة الأداء.
لم يكن شتراوس مهتماً بمراقبة الأقدار الفردية، رغم مساعدته لماري كوري ونيوتن على الوصول إلى تكامل الحب بينهما، بل كان مهتماً بقدر الجماعة بأجمعها، فالمعرفة لا قيمة لها إن لم تكن كاملة، ومعرفة الأجزاء فحسب يجعلها غير صحيحة. وبذلك يقترب "فيشر" من مقولة فيثاغورث عن الروح الواسعة المعرفة الحكيمة، "النبية لحقيقة الإله " التي تجعل ممتلكها "إلهاً بين الرجال".

فيشر والثالوث العلمي
يقدم المخرج فيشر نظرة علمية للثالوث القديم، السابق في أصوله للمسيحية، وهو المعروف بالسابق، واللاحق، والكلمة. فهناك تردد عال جدا يسمى المنبع، لا يمكن الاقتراب منه، وثمة ترددات منخفضة تتصادم مع بعضها، ويتحقق التواصل بين الطرفين بطاقة الكلمات، التي تؤمن الانسجام بينهما، ولكن دونما وضعهما على طرفي مساواة واحدة.
ووفق المعنى الصوفي، فإن الكلمة هي رسول التردد الأعلى، أي "الذات العليا " إلى الترددات المنخفضة، أي "النفوس الممتحنة"، التي انفصلت عنها، لتكسب غبطة المعرفة بها ومن خلالها، لتعود إليها بعد بلوغها الإدراك الواسع للحقيقة الكلية. والكلمة طاقة ترفع التردد المنخفض ليقترب من التعادل مع المرتفع، ليلغي لحظياً غاية الازدواجية، بين الثنائيات المتناقضة، لكنه لا يبلغ الحد الأعلى من التوهج إلا بالعدم الصوفي، الذي يحوي كمون الوجود، أي الفناء في البقاء. ويتوافق التوازن بين الترددات مع مركز الصليب السوري المعكوف، رمز عشتار، الألوهة السورية القديمة، الذي يقع في قلب مثلثين متداخلين، يرمز الأعلى للوجه الظاهري من الكون، والأسفل للوجه الباطني منه، في إشارة للتساوي بينهما، فكما في الأسفل كما في الأعلى.
الترددات والإدراك المعرفي
إن الإدراك النابع من محيط الحياة داخل كل منا هو أساس معرفة المادة، وتشكل العقل والأفكار. ففي الطبيعة لا يوجد شيء اسمه مادة بمعناها الفيزيائي الصلب، المتعارف عليه والمكتسب عبر الحواس الخمس. وإذا توغلنا في بنيتها الداخلية الجسيمية والذرية، نجد أن المادة هي طاقة تتواجد في الوقت نفسه كذرات وفوتونات، وتنشأ وتستمر بفعل القوة، التي تدفع جسيمات الذرة للاهتزاز، وبالتالي تتجلى تأثيراتها عبر الترددات الطاقية. وبما أن العقل هو الذي يوجد المادة عبر الادراك، فهذا يعني أن صلابة الجسم هي سراب، لأنها طاقة. أي أن المادة الكلية من حولنا هي نتاج تردد طاقي، أي تموجات طاقية، تتبدى في الضوء والصوت. وبالتالي يدين كل شيء بوجوده إلى الصوت فقط، لأنه العامل الذي يجمع الأشياء معا، وهو الأساس للأشكال والتركيبات في الطبيعة والوجود بأسره. تحدث أكثر التأثيرات ضرراً في معرفتنا بسبب الابتعاد عن التفكير الشمولي لكامل الدماغ، والاقتصار على استخدام الجزء الأيسر منه، والمتعلق بالتفكير العقلاني، وذلك لصالح السيطرة الذكورية، وإهمال الجزء الأيمن المتعلق بالحدس، وهو ما يُعرف بقمع المؤنث. وتشكل الأحاسيس جزءً من الواقع الحقيقي التابع لإدراك أعلى، حيث يتم التعرف عليها من خلال عوارضها الفيزيائية، باعتبارها تجليات مباشرة لإشارات غير ملموسة، ومن هنا تأتي أهمية الحدس في تكامله مع المنحى العقلاني للدماغ، وارتباطه بالتفكير الشمولي.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن أحاسيسنا تمتلك ترددات متذبذبة، نميز منها بالشعور اثنين هما الحب والخوف. أما باقي الأحاسيس فتتناسل منهما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهناك 64 شيفرة محتملة من التركيبات الأمينية في الحمض النووي، مكونة من أربعة عناصر، الكربون، الهيدروجين، الأوكسجين، والنتروجين. لكن من احتمالية 4 شيفرة هناك فقط 20 منها في وضعية التفعيل، وتؤدي الأحاسيس دور مفتاح التشغيل والإيقاف لهذه الشيفرات. ويلعب الحمض النووي دور جهاز لإرسال واستقبال ترددات التموجات، الضوء والصوت، من أجل إحداث التغيرات داخل المكونات الخلوية، ما قد يعني أنهم ذرات مائية. وهذا المفهوم العلمي يتفق مع المنهج الصوفي، الذي يعتبر الماء وسيلة تجلي الحقيقة. وتأخذ القوة الهرمية المتواجدة حول الحمض النووي الطاقة الروحية لترددات الحب، وترسلها لتتجلى في حقل كمي، كمادة فيزيائية للجسم. وهذه الترددات أو الدورات في الثانية هي نفسها التي يستخدمها الموسيقيون في ضبط آلاتهم، وتوافق موسيقى الخالق، التي ذكرها سابقا فيثاغورث، وُيعتقد أنها تؤثر في المادة والإدراك. وتساهم هذه الترددات في فهم ماهية الخلق، وآلية التدمير وإتيان المعجزات، لأولئك الذين يملكون تقنية المعرفة، ويستخدمونها للتحكم بالبشر، وإرساء عبوديتهم المادية، القائمة على تقديس الوهم، الملتصق بالترددات المنخفضة.
ولذلك، تتمثل الحرية في اختيار الإنسان لقدره الخاص، إما بالعيش في حالة من الحب، كونها تمثل ترددات مرتفعة، تزيد من سعة إدراكه عبر تشغيل عدد أكبر من شفرات الحمض النووي، أو الاستسلام للكراهية والخوف والسلبية، والعيش في ترددات منخفضة، تشغل 20 حمضا فقط. ويجسد الاختيار هنا قوة الإرادة في تطويع الشرطية الجبرية، التي تحكم المسارين الفردي والجمعي، وصهرها في بوتقة المعرفة، التي والجمعي، وصهرها في بوتقة المعرفة، التي تحدد مصير القدر، فإما الاكتمال واعتدال الترددات أو النقصان والتعرض لأنماط السخرية بوصفها نتاجاً لفخ الثنائيات المتعارضة. وهو ما تم التعبير عنه في العبارة التي تفتح الفيلم "المعرفة تحدد مصير القدر" .

مجلة الأدب العلمي العدد الثاني والثلاثون محطات


0 comments: