Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

تشخيص للموت ....الأدب العلمي العدد السادس


تأليف أمبروز بيرس*
ترجمة توفيق محمد السهلي

(أنا لا أؤمن كثيراً بالخرافات، كحال بعض أطبائك-رجال العلم-، كما يطيب لكم أن تُنادون) ..قال هوفير،  رداً على اتهام لم يوجهه أحد .
«بعضكم، وأعترف أن هؤلاء قلة، يؤمنون بخلود الروح و بالرؤى الشبحية التي تعوزكم الأمانة لتسموها أشباحاً. لا أتجاوز حد قناعة بأن الأحياء يشاهدَون أحياناً حيث لا يكونون موجودين، لكن حيث كانوا موجودين – حيث كانوا يعيشون لفترة طويلة، ربما بشكل مكثف حتى أنهم تركوا دمغاتهم على كل ما يتعلق بهم. أعرف فعلاً، أن بيئة أو محيط شخص يمكن أن تتأثر بشخصيته إلى حد أنه يمكن أن تنتج بعد فترة صورة لنفس الشخص أمام عيني شخص آخر. »
« لا غرو أن الشخصية المؤثرة لا بد أن تكون النوع الصحيح من الشخصيات كما يجب أن تكون الأعين الرائية من النوع الصحيح من الأعين - مثل عيني. »
«نعم، النوع الصحيح من الأعين ، لينقل أحاسيس إلى النوع الخطأ من الأدمغة » قال دكتور فريلير مبتسماً.
«شكراً.. ليحب المرء أن يرضي أحد توقعاته، هذا بشأن الرد الذي افترضت أن كياستك ستدفعك إليه .»
«أرجو المعذرة. لكنك تقول إنك تعرف. وهذا كثير ليقوله شخص. ألا تظن ذلك.؟ ربما لن تمانع في أن تخبرني كيف عرفت. »
«سوف تسميها هلوسة ».. قال هوفير.. « لكن ذلك لا يهم » .. وتابع سرد القصة.
«الصيف الماضي ذهبت، كما تعرف، لقضاء بعض الوقت مع الأجواء الحارة في بلدة ميريديان.. قريبي الذي كنت أنوي النزول في منزله كان مريضاً.. لذا قصدت أمكنة أخرى .»
«بعد بعض المشقة، تمكنت من استئجار منزل شاغر، كان يقطنه طبيب غريب الأطوار يدعى مانيرينغ، تركه وذهب منذ سنوات، لا أحد يعرف إلى أين، ولا حتى الشخص الذي أوصاه بتأجير منزله .»
«لقد بنى المنزل بنفسه وعاش فيه مع خادمه الكهل لنحو عشر سنوات. لم يكن نشاطه المهني كبيراً فاضطر بعد بضع سنوات للتخلي عن مهنته بالكامل.. لم يقتصر الأمر عند ذلك، بل حتى إنه توارى عن الأنظار منسحباً بشكل شبه كامل من الحياة الاجتماعية وأصبح ناسكاً.
أخبرني طبيب القرية عن الشخص الوحيد الذي أقام معه أي علاقة، وكيف أنه خلال تقاعده كرس نفسه لدراسة موضوع أوحد لا غير، جمع خلاصتها في كتاب لم يحظ برضى زملائه في الوسط الطبي، والذين رأوا أن مسّاً من الجنون قد أصابه.
لم أرَ الكتاب ، ولا أستطيع أن أتذكر الآن عنوانه، لكن قيل لي إنه يضم بين جلدتيه نظرية غريبة مثيرة للدهشة. قال في كتابه إنه من الممكن لشخص صحيح أن يتنبأ بوفاته بدقة، قبل سنوات من حدوثها فعلاً. أعتقد أن الفترة الحد ثمانية عشر شهراً.
تواردت أقاصيص بين سكان البلدة تقول إنه مارس قواه التكهنية أو ربما تفضل القول: التشخيصية، وقيل إنه في كل مرة قام فيها الطبيب المتقاعد بتحذير أصدقاء شخص ما، كان ذلك الشخص يموت فجأة في الوقت الذي أخبرهم به، وبدون سبب واضح. هذا كله، رغم ذلك، ليس له علاقة بما ينبغي أن أخبرك به، اعتقدت أن ذلك سيمتع طبيباً.
البيت كان مؤثثاً تماماً كما كان عندما عاش فيه.. كان مسكناً كالحاً بالنسبة لشخص لم يكن متنسكاً أو طالباً، وأظن أنه أسبغ شيئاً من شخصيته علي، وربما شيئاً من شخصية ساكنه السابق، إذ لطالما شعرت فيه بشعور سوداوي معين لم يكن جزءاً من طبيعتي النفسية، ولم يكن مرده كما أعتقد إلى الإحساس بالوحدة.
لم يكن لدي خدم ينامون في المنزل، لكن كنت دوماً، كما تعرف، مولعاً نوعاً ما بمجتمعي إذ كنت كثير الإدمان على القراءة، رغم أن قليلاً منها كان للدراسة.
مهما كان السبب، فقد كانت النتيجة شعوراً بالإحباط وإحساساً بشرّ داهم، وكنت أحس بذلك خصوصاً في مكتب الدكتور مانيرينغ، رغم أن تلك الغرفة كانت أكثر غرف المنزل إنارة وأكثرها تعرضاً للهواء. كانت صورة الدكتور الزيتية بالحجم الطبيعي معلقة في الغرفة، وبدا أنها تهيمن عليها تماماً.
كان في الصورة شيء غير عادي، فكما هو واضح كان الرجل وسيماً، قارب الخمسين، ذا شعر أشيب حديدي، ووجه حليق ناعم، وعينين جادتين.
شيء ما في الصورة كان دائماً يشدني ويأسر اهتمامي.
أصبح مظهر الرجل مألوفاً لديّ، بل حتى أنه سكنني.
في أحد الأيام كنت أمرّ عبر هذه الغرفة إلى غرفة نومي حاملاً قنديلاً، إذ لا غاز في «ميريديان. »
توقفت كما العادة أمام اللوحة التي بدت مع تراقص ضوء القنديل كما لو أنها اكتسبت ملامح جديدة، لم يسعني أن أحددها بسهولة، لكنها بالتأكيد كانت غامضة تبعث على إحساس بالقشعريرة. كانت تثير اهتمامي لكنها لم تزعجني.
حركت القنديل من جانب اللوحة إلى جانبها الآخر، ولاحظت انعكاسات الضوء المتغيرة. وبينما أنا منغمس في ذلك، أحسست برغبة تدفعني إلى الالتفات للوراء. وبينما أنا أفعل ذلك، شاهدت رجلاً وسط الغرفة يتجه مباشرة نحوي!. وما إن اقترب بشكل كاف من القنديل، حتى أتبين ملامح وجهه، حتى أدركت أنه كان الدكتور مانيرينغ ذاته! بدا كما لو أن اللوحة كانت تسير!
«عفواً » قلتها بشيء من البرودة، « لكن لم أسمعك وأنت تدق الباب ». مرّ بجانبي على بعد ذراع، رفع أصبع سبابته اليمنى، كمن يحذر من شيء، وبدون أن ينبس ببنت شفة، تابع مسيره إلى خارج الغرفة، رغم أنني لم أكدّ ألحظ خروجه منها كعدم ملاحظتي لدخوله إليها. بالطبع يجب أن أخبرك أن ذلك كان ما يطيب لك أن تسميه هلوسة وأنا أسميه شبحاً. لم يكن لتلك الغرفة إلا بابان، أحدهما كان مغلقاً، بينما الثاني كان يؤدي إلى غرفة نوم لم يكن لها أي مخرج. شعوري عندما أدركت ذلك ليس جزءاً مهماً من الحادثة.
مما لك شك فيه أن يبدو ذلك لك قصة أشباح عادية- قصة صيغت بناء على خطا سادة الصنعة القدامى. لو كان الأمر كذلك لما تجشمت عناء سردها على مسامعك، حتى لو كانت حقيقية. الرجل لم يكن ميتاً. لقد قابلته اليوم في شارع يونيون. مرّ بجانبي وسط حشد من الناس. »
هوفير أنهى قصته وخيم صمت على الرجلين. الدكتور فرايلي أخذ يطرق بأصابعه على الطاولة شارد الذهن.
«هل قال لك شيئاً اليوم في شارع يونيون. »
سأل فرايلي. » أي شيء استدللت منه أنه لم يكن ميتاً؟ .»
حدجه هوفير بنظرة دون أن يجيب.
« ربما »، تابع فرايلي كلامه، لكنه قام بإشارة أو حركة كأن رفع إصبعه كما لو كان يحذر من شيء. كانت تلك خدعة عنده – عادة لديه عندما يقول شيئاً خطيراً - معلناً نتيجة تشخيص ما على سبيل المثال .»
« أجل فعل ذلك. تماماً كما فعل شبحه. لكن بالله عليك! أو كنت تعرفه؟! »
بدا أن هوفير كان يزداد توتراً على توتر.
«لقد عرفته.. قرأت كتابه.. كما سيقرأ ذلك الكتاب كل طبيب يوماً ما. إنه أحد أكثر الأعمال إدهاشاً وأكثر الإسهامات الطبية أهمية في هذا القرن.. نعم كنت أعرفه.. كنت إلى جواره في مرضه قبل ثلاث سنوات.. مات. »
نهض هوفير من الأريكة وقد بدا عليه الشعور بالضيق. أخذ يذرع الأرض جيئة وذهاباً، ثم اقترب من صديقه وبصوت متهدج قال: « دكتور، هل لديك أي شيء تخبرني به، كطبيب.؟ »
«كلا، لكنك أكثر الرجال الذين عرفتهم صحة. كصديق أنصحك بالذهاب إلى غرفتك. أن تعزف على الكمان كملاك. فاعزف ، اعزف شيئاً خفيفاً ومطرباً. أخرج هذا العمل الملعون من رأسك. »
في اليوم الثاني عثر على هوفير ميتاً في غرفته. الكمان كان إلى جانب عنقه، القوس على الوتر، أما النوطة المفتوحة أمامه فكانت «المسيرة الجنائزية » لشوبان.
*أمبروز بيرس محرر وصحفي ومؤلف أمريكي ( 1842 - 1914) بعد أن تقاعد من الجيش تفرغ للكتابة
والتأليف، لديه عدد كبير من المؤلفات أشهرها قاموس الشيطان Dictionary Devil's أثرت مؤلفاته حتى ظهر بعضها كأفلام في العشرينيات وألف موسيقار أمريكي أوبرا مستوحاة من حياة بيرس . في عام 1913 اختفت آثار المؤلف تماماً بعد أن خرج من مدينة شيهوهوا. لا يزال سر اختفائه يشكل غموضاً تحاك حوله النظريات .

مجلة الأدب العلمي العدد السادس  ملف الإبداع

0 comments: