Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

العبور ..... الأدب العلمي العدد السادس عشر


تأليف : ناتاليا فارينيك
ترجمة : ثائر زين الدين – فريد حاتم الشحف

لم يكن مستحباً في ميغابولوس الحديث عن الأرض . هنا لم يذكرها أحد ، حتى الملائكة ورؤساؤهم الذين يقومون بواجبهم . كانوا يعودون من الأرض صامتين بتجهم ، تختفي وجوههم في ظل الجوانح والدروع .
حلّم الكثيرون بالوصول إلى الأرض. لقد كانت إحدى الأماكن الغامضة، التي نادراً ما كانوا يتوجّهون إليها. من الصعب القول - متى عاد آخرهم من هناك، فلا وجود للزمن في ميغابولوس، يوجد ضوء باهر فحسب، ضوءٌ لا يتحرّك بسرعة فائقة، بل يظلُ جامداً تماماً. غالباً ما كانوا يتوجهون إلى أماكن أخرى. عددها يفوق الحصر في الكون. لكن الأرض استمرت بجذبهم، كثمرة ممنوعة. حلم يفانغيلوس )حينها لم يكن له اسم( منذ زمن بالأرض. لقد كان عبقرياً، وربما - مجرماً، لأنّه دبّر ذات مرّة خطة جريئة للنفاذ. وكان كل ذلك عبقريّاً - ببساطة: كان عليه الانتظار فحسب، فإذا ما وقع شخصٌ عائدٌ في ممر العبور. مشى في ذلك الممر لملاقاته. لقد انتظر. عاماً، عامين أو عشرة لم يكن هناك زمن، كانت هناك الأبدية والأفكار عن الأرض فقط... و ها هي ذي المصادفة تحدث. لقد شعر ذات مرّة بكل أحاسيسه، كيف انفتح ذلك الممر - وليس الاعتيادي الذي يصلون عبرهُ إلى ميغابولوس و للأبد، بل ذلك الممر الخاص- الذي يعبره العائدون، لكن كي يرجعوا أدراجهم بعد توقف القلب للحظات. المهم هو أن يتمكن من الوصول قبل فوات الأوان. وقد كان عبقرياً، فتمكن من الدخول إلى الممر. هناك أيضاً ضوء. لكنّه لم يكن ضوء ميغابولوس -الساطع بسكون، بل تيّار غاضب من النار المتدفقة، يسرع بشراسة لملاقاتك. لقد حرق يفانغيلوس وحاول رميهُ إلى الخلف، لكن يفانغيلوس استمرّ بالسير عكس التيار. ثم ظهر فيما بعد العائد. لم يستطع يفانغيلوس نسيان نظرته أبداً- عينان داكنتان ضخمتان، مليئتان باليأس المنهك. تيّار متدفق مضيء، حمل العائد في مواجهته، ولم يكن بإمكانه، إلاّ أن يعوق يفانغيلوس، ويدفعه للاستدارة إلى الخلف. إنّها كانت نظرة الميّت. ثم أفقده الألم الحاد وعيه للحظات. استيقظ على إحساس غريب لسعت رقبته، وشعره، وجسمه، قطرات، وسالت جداول صغيرة باردة. وكان هناك هواء  أيضاً، عكرٌ وعاصفٌ، و زمن - كذلك. تساقطت القطرات، وسالت من اتجاه إلى آخر، بتسارع - كان ذلك إحساس مدهش! كان مستلقياً في بركة ماء قذرة، و عليه ثيابٌ ممزقة، ومن حوله تجمّع بعض سكان حارات ميناء سالونيكوف. كانوا ينظرون إلى يفانغيلوس بتأمّل. لكزه أحدهم برجله، كما يُلكز الكلب الميت، محاولاً التأكد - هل هو حيّ أم ميت. شتم واستدار ببطء، وانصرف. لحقه الآخرون. و لو أنّ هؤلاء الشبان السمر استداروا إلى الخلف، لكانوا قد شاهدوا، كيف كان المتشرّد يضحك بصمت، مكشراً عن أنيابه البيضاء، على خلفية وجهٍ قذرٍ. كان يفانغيلوس يضحك، بينما الدموع تسيل على وجهه. لقد وجد نفسه، وبمشيئة القدر في الدرجة السفلى من الحياة البشرية... لكنّه كان سعيداً جداً. لقد حقق ما أراد! إنّه الآن على كوكب الأرض... مضى على هذا الحدث ثمانية عشر عاماً. خرج يفانغيلوس إلى شرفة فندق "خمس نجوم " حيث يظهر من ذلك المكان الدير اليوناني القديم في الجبل. ارتفعت الشمس الوردية فوق الضباب، الذي غلّف المنحدرات الصخرية للشهاب المقدّس. كان تصدح من بعيد أصداء الأجراس الفضيّة الرهبان يذهبون إلى الصلاة. كان يفانغيلوس يدخّن سيجاراً غالي الثمن. ويرتدي بزةً لا عيب فيها، تجمّد حرّاسه الشخصيون عند باب غرفته في الفندق ، أمّا في الأسفل فكان بانتظاره سيارة فخمة، تشبه الطائرة. إنّه أحد أكبر الأغنياء في اليونان. لم يفهم أحد الصعود السريع الباعث على الدُوار ليفانغيلوس. ومن أين قدم؟ انتشرت شائعة، تفيد بأنّه صعد من أسفل القاع. كان دون أدنى شك مرتبطاً بعالم الإجرام، لكن الأموال مكّنته أن يصبح عضواً وقوراً في المجتمع. لقد كان سرّاً أُرتجتْ عليه سبعة الحدس لم يخيّب يفانغيلوس أبداً. وها هو اليوم، يوحي إليه، بأن يكون هنا - في هذه البلد الجبلية الرهبانيّة. نظر إلى الضباب وهو يرتجف بعصبية،ثم قفز بخفّة فوق "دربزين " الشرفة، وانطلق لملاقاة الشمس الصاعدة. انزلق شرشفٌ أبيض وراء آخر عن المنحدرات الصخرية، كاشفةً بذلك الأديرة القديمة للنظرات. وصدح صوت الأجراس من النواحي جميعها. وصل يفانغيلوس إلى منحدر جبلي ضيّق فشاهد إنساناً. كان شاباً متشرّداً، يسير نحوه دون اكتراث. تملك يفانغيلوس فجأة إحساسٌ بوقوع كارثة، لذلك أسرع في خطاه، محاولاً تقليص المسافة بينهما. لكنها ما زالت طويلة جداً... اندفعت سيارة مسرعة من خلف المنعطف. لم ينتبه السائق لوجود الفتى المتشرّد، إلاّ متأخراً، بسبب الضباب المبهر. صرّت المكابح، انزلقت السيارة، وصدمت الفتى، قاذفة به إلى جانب الطريق. تمكّن يفانغيلوس فقط من رؤية الهلع الشديد الذي جلل وجه المرأة خلف المقود، وهي تمر بجواره مسرعة. هرع نحو الشخص المرمي على الطريق. لم ير تشوّهات خارجية بادية عليه، لكنّه كان بلا حراك. مزّق يفانغيلوس بيدين مرتجفتين القميص عن صدر الفتى، وحاول سماع دقات قلبه. نبضه كان متوقفاً. ازداد قلقهُ. وأشعرهُ ذلك بأنّ مصير الفتى الذي صدمته السيارة، مرتبط به بشكل وثيق. وأن كلّ ثانية تأخير تهدد بالفاجعة. فعل كل ما هو ممكن، من أجل إنقاذ الفتى، تنفّس الصعداء عندما فتح عينيه ببطء. لكنّ نظرته لم تُفرح يفانغيلوس. لقد لكنّ نظرته لم تُفرح يفانغيلوس. لقد كانت نظرة فطنة ذكيّة لكائنِ ، يقف على درجة أكثر علوّاً من الثقافة، وليس مجرّد متشرّد عاديّ. التقت نظراتهما، وأدرك يفانغيلوس، بأن القادم يفوقه قوّة داخلية . نظرة الغريب كانت احتفالية. حدّق بيفانغيلوس وقد ظهرت على وجهه تعابير الحسد والغضب. لقد قارن - نفسه مرمياً على الأرض، بيفانغيلوس. لكنّه كان لا يزال ضعيفاً و أصمّاً، لكي ينهض. جلس يفانغيلوس على حجر وسأل باختصار:
- لقد تمكّنتَ إذاً؟
ارتجف الغريب، وتمتم شيئاً - ما، من دون صوت بشفاه لا تستجيب، مع ذلك أجابه فيما بعد قائلاً:
- كان الأمر بالغ الصعوبة. بعد أن تكرّر استخدام الممرّات دون رقابة، تم تشديد التدقيق في ميغابوليس. لاحظ يفانغيلوس، كم كانت عينا الغريب مشتعلتين بالفضول. لقد كان ينظر إلى كل شيء من حوله بشراهة. تنفّس يفانغيلوس بتعب، وقررّ التحدّث إليه. كان عليه أن يتحدّث عن السنوات التي مرّت كلها . لقد كان يؤمن بقدره ويعلم أنّه لا يمكن تغيير أي شيء. سأل القادم:
- ما هي الأرض؟
ضحك يفانغيلوس قائلاً:
- ما هي الأرض؟ سوف تعرفها لاحقاً...
سأل المتشرّد بشغف - حدثني.
بدأ يفانغيلوس قائلاً:
- لقد ظهرت هنا، مثلك، تافهاً، وسخاً وأشعث. أستطيع القول إن حالي كانت أكثر سوءاً لأنّ أحداً لم يمدّ لي يد المساعدة. لكنني كنت سعيداً، فكل شيء من حولي كان حقيقياً الهواء، والشجر، والعشب... لقد كان الواقع قويّاً، لدرجة جعلتني أثقُ بهذه الديكورات. هنا كان زمن، مع أنه يعمل دائماً بغير صالحنا، فهو يقصّر الحياة. ثم بدأت ألاحظ أمراً ما؛ لكل شيء على الأرض معنىً - لكلّ خطوة ولكل تصرّف. غالباً عندما كنت أسير في الشارع - جائعاً، ومنهكاً وتعساً - يظهر أمامي معاقٌ على عكازين أو طفل بعاهة خلقية. بداية لم أفهمْ
- لماذا؟ ثم أدركت - أنّ أحداً - ما يريد أن يُظهر لي تفاهة مصيبتي. عندما كنت أُفكّر بأمر مهم، كان يظهر في طريقي متسول يده ممدودة. فأمضي مسرع الخطا، لأنّ الوقت لا يسمح لي أن أقدّم له قطعة نقود صغيرة. لم يحالفني الحظ. حينها أدركتُ، بأنّ أحدأً - ما يريد التحقق من طيبي وإنسانيّتي. كنت محتاجاً بشكل مخيف. ومررتُ بلحظات يأس، وتمنّيتُ الموت. ذات مرّة في عيد الميلاد ، عندما كانت واجهات المحلات تشعّ بالأضواء من حولي، والمارّة يحملون الهدايا مُسرعين، كنت عائداً إلى البيت بيدين فارغتين. ما من أحد في هذا العالم أراد أن يهديني شيئاً ما. وفجأة لاحظت محفظة نقود مرمية على الطريق. رفعتها بحذر، دون أن أُصدّق حظّي، ووجدتُ نقوداً - لا، ليس مبلغاً كبيراً، بل ما يكفي لشراء هدية عيد ميلاد عادية لنفسي. أدركت حينها، بأن أحداً - ما أراد أن يقول لي، إن الرب لم يتركني. ما كنت أصل إلى حافة الهاوية - حتى يمد القدر لي يد المساعدة. ومهما كانت تلك الاختبارات التي تعرضت لها، فقد جاءت دوماً في حدود مقدرتي على تحمّلها - لا أكثر ولا أقل. لقد قدم إليّ ليلاً من ميغابوليس، أولئك الذين كنتُ غالياً بالنسبة لهم، وحاولوا تحذيري من التصرفات الطائشة. لكن غالباً لم أكن أُدرك، ماذا يريدون أن يقولوا لي. كنت جشعاً،من دون رحمة، ومتعطشاً للمال. لم أحب أحداً، عدا نفسي. الحياة على الأرض - صراع، يُنتصر فيه الأقوى. ولكنني ربحتُ، عندما كان ذلك يناسب القدر فحسب، وخسرتُ بمشيئة القدر. لقد كنتُ مجرّد لعبة... هل تريد أن تعرف أكثر ما هي الأرض؟ تنفّس المتشرّد بشغف قائلا: - نعم. انحنى يفانغيلوس نحوه وهمس قائلاً: - الأرض - هي حقلٌ يتم اختبار الإنسان فيه. هي أنموذج ألعاب شديدة الذكاء ، حيث يُجرّب فيها لعبُ حالات مختلفة. خطوة واحدة تخطوها جانباً - وتتحوّل الأحداث إلى سيناريو آخر. يراقبونك عن كثب في كل مكان. ساعدني حدسي في اجتياز أصعب الحالات. تعلمتُ تدريجياً فهم معاني الألعاب وتأقلمت مع قواعدها. و بفضل ذلك أصبحت غنيّاً، ومحظوظاً، ومحبوباً من قبل القدر. لكنني تعاطفت في الوقت نفسه مع أولئك، الذين اختبر الحقلُ قوّتهم. شاهدتُ في أغلفةِ الناس الآخرين أرواحاً تعسة، تستحق المواساة. الأرض يا بنيّ - أروع مكان في الكون، لن يكون مثله مكان آخر. لكنّ الأرض هي اختبارٌ مخيفٌ للإنسان، وأنا لا أرغب أن أجد نفسي ثانية هنا...
إذا أنت غنيّ؟ - سأل القادم، وقد رنّت نغمة غريبةٌ في صوته. نظر يفانغيلوس إليه بشفقة: إن كل شيء بالنسبة لمُسْتقبِلِهِ هذا لا يزال أمامه ... أشفق عليه، حتى عندما استلّ ذلك المتشرّد السكّين من جيبه وطعنه في قلبه.

مجلة الأدب العلمي العدد السادس عشر  ملف الإبداع 

0 comments: