Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

الأبيض المر ....الأدب العلمي العدد الخامس عشر


سوسن قاسم عزام

تنتشلنا من غياهب نومنا .... ترافقنا في أحزاننا وأفراحنا وحتى في وحدتنا .... كانوا يدعونها بالخمر .... هي ابنة الصدفة ... قيل أنها ظهرت بسبب دموع الآلهة التي ذرفتها حزناً على السحرة .... يعمل من أجلها 26 مليون شخص حول العالم .... دخلت المخابر مرة متهمة ومرة معالجة .... ومازال الجدل دائراً حولها حتى الآن ...إنها الأبيض المر ... إنها القهوة ....
القهوة شجرة معروفة منذ مئات السنين ويقال إنها قد تعود لأزمان غابرة وكانت الدلائل الأولى لزراعتها في مزارع الصوفيين في اليمن وأول نبتة زرعت يدوياً في أثيوبيا، أما الأساطير حول وجودها فيقال إنها بدأت منذ العصر الحجري حيث عرف استهلاك البشر للكافيين منذ تلك الفترة من خلال مضغهم لبعض البذور وأوراق النباتات لتخفيف أعراض التعب وتحفيزهم على الوعي والنشوة الدائمة ، أما في الصين تعود الأسطورة الشعبية لوجود القهوة إلى الإمبراطور الصيني "شنيونج " الذي اكتشف بالصدفة أن بعض أوراق الشجر التي سقطت بالماء بالصدفة في ماء مغلي قد انتشرت رائحتها الزكية وقام الإمبراطور بالشرب منها لتصبح شراباً مشهوراً لاحقاً،و في أفريقيا يعود تاريخ القهوة للقرن التاسع قبل الميلاد حيث كانت تستخدم حبيباتها في نظام المقايضة هناك ، وقام راع في منطقة تعرف الآن بأثيوبيا منذ 1300 سنة و يدعى "الخالدي " بملاحظة قطيع الماعز خاصته وكيف كان يتصرف بشكل غريب حيث كان يقفز ويركض بجنون بعد أن تناول من ثمار الأجمة فقرر الراعي أخذ عينات من هذه الثمار إلى الدير خاصته ويدعى(Cheodet) ليقوم الرهبان بطهي الثمار على النار وعندما تحمصت بدأت رائحتها الزكية بالظهور فقام الرهبان وجهزوا شراباً ثانياً بالثمار المحمصة ودهشوا بالنتيجة التي حصلوا عليها . ثم انتشرت القهوة حول العالم في آسيا وأفريقيا في أمريكا الوسطى والجنوبية وفي جزر الكاريبي والهادي وشحنتها شركة ألمانية هندية لأول مرة من اليمن إلى منطقة  "باتفيا " وبعد نجاح زراعتها انتشرت إلى سومطرة وسايلون وجزر سوندة أما الكابتن"غابرييل دي كليو " فهو الذي أوصل القهوة إلى مناطق الأنديز الغربية وتم تهريب القهوة على شكل شتلات لاحقاً إلى البرازيل من قبل "فرانسيسكو بالهيتا " والتي يقال أنه كان يخبئ الماء القليل من أجل سقاية الشتلات ثم بقي هذا المشروب في البرازيل حكراً على طبقة النخبة لينتشر إلى عامة الناس لتصبح البرازيل من الدول المحتكرة افتراضياً لتجارته مع تعدد الأسواق المربحة الأخرى لهذه المادة في كلٍ من كولومبيا وغواتيمالا وأندونيسيا وفيتنام . لكن لم تكن تجارة بيع القهوة هي المربحة فقط بل أصبحت تجمَع الناس في أماكن مخصصة للعامة وكان أول مكان عام للقهوة في فلسطين في سنة  1900  وفي دمشق في عام  1530  وفي اسطنبول بواسطة تجار دمشق وحلب في سنة  1475  ثم انتشرت بسرعة في الدولة العثمانية ولم تظهر الأماكن العامة للقهوة في أوروبا حتى القرن السابع عشر  وأولها في البندقية في 1645 وفي إنكلترا وفي أوكسفورد في  1650 وأسس الأرمني المعروف باسم "باسكال " أول محل في باريس 1672  والذي لم يكن ناجحاً جداً حتى العام 1689حتى قام "بروكوبيو كوتو " بافتتاح أول محل قهوة في فرنسا يحمل ذات الاسم وما زال لغاية الآن وقد كان ملتقى لكل من فولتيير وروسو ودينيس ديديروت. تعددت طرق جمع القهوة إما بالقطف اليدوي الانتقائي أو هزّ الشجرة مباشرة أو من خلال استخدام فضلات حيوان"الكيفت " ، ويتم علاج القهوة المقطوفة باليد بواسطة الماء من خلال اتباع أسلوب يدعى "الترطيب " حيث يتم ترطيب الحبات بالماء وتُزال البذور آلياً لاحقاً ليتم تخميرها في مستوعبات كبيرة ثم يتم غسلها مرة ثانية وتُجفف بواسطة أسطوانات دوّارة، أما معالجة حبوب القهوة التي قطفت من خلال هزّ الشجرة وتدعى بالأسلوب «الجاف » فتعتمد على تجفيف البذور وإزالة غلافها الخارجي ،وفي كلتا الطريقتين من المعالجة فإن القهوة الناتجة تسمى «القهوة الخضراء » والتي يتم فرزها يدوياً أو آلياً لإزالة البذور غير الجيدة ويعاد تصنيفها لاحقاً حسب الحجم وقد يتم نزع الكافيين عن بذور القهوة من خلال استخدام مواد مُذيبة وذلك لفصل الزيوت وعندها يتم استهلاك المنتج تحت اسم القهوة منزوعة الكافيين أو قد يتم بيعه إلى شركات الصناعات الدوائية. أما الطريقة المستخدمة بواسطة حيوان «الكيفت » والتي يتم من خلالها جمع فضلاته بعد تناوله لحبوب القهوة ويسمى هذا النوع من القهوة ب )قهوة الكيفت( وحسب اللغة الإندونيسية تسمى Kopi Luwak  حيث يقال إن هذه الطريقة مفيدة من جهتين الأولى أنها انتقائية لأن الحيوان يختار الحبوب شديدة المرارة والسبب الثاني هو مرورها بجهاز هضم الحيوان وبالتالي تتحسن نكهة القهوة المستخرجة عندها ولكن وجد المزارعون طريقة أفضل من جمع الفضلات في الغابة وهي تربية الحيوان وللأسف في ظروف مزرية ويتم إجباره على تناول الحبوب التي يختارها المزارعون ثم يجمعون فضلاته ويفصلون القهوة عنها ، ومن غير المستغرب أن يصل ثمن الكيلو غرام منه إلى  700 $ لأنه من أغلى أنواع القهوة المعروفة في العالم، ويتوزع إنتاج "قهوة الكيفت " في جزيرة سومطرة وجاوة وبالي وسالويسي أما المناطق التي يتم جمع "قهوة الكيفت " فيها من الغابات مباشرة فهي غابات الفليبين وتيمور الشرقية. ولكن الغريب أنه مع استمتاع الكثيرين بهذا المشروب حول العالم إلا أنه في فترة ما سابقة حرمت الكنيسة الأثيوبية الأرثوذكسية شرب القهوة حتى عهد الإمبراطور «مينلك » وتم تحريمها أيضا في تركيا أيام العثمانيين خلال القرن السابع عشر لأسباب سياسية وكان يعد شرب القهوة في أوروبا من الأنشطة السياسية الممنوع القيام بها ،حتى أنها حُرّمت أيضاً في مكة المكرمة في عام 1511 ورفع هذا المنع في منتصف القرن السادس عشر فقد كان استخدامها من قبل المتصوفين قد جعلها ضمن طائفة المواد "المهرطقة " وفي دولة بروسيا في عام 1777  قام "فرديريك العظيم " بمنعها لأسباب اقتصادية لأن استيرادها كان يكلف مبالغاً طائلاً وأجبر العامة على شرب البيرة بدلاً منها . لكن بعد انتشارها في العالم اختلفت طرق تقديمها وذلك من خلال إضافة المُنكّهات لها من حليب وقرفة وشوكولا وحتى الويسكي وأصبحت تُعرف تحت مسميات عدة فمثلاً نجد القهوة العربية والتركية والاسبرسو والكابتشينو والموكا والأيرلندية والمُثلّجة. لكن شجرة القهوة ليست ثمارها مرغوبة فقط من قبل الإنسان لكنها مفضلة أيضا كشجرة من قبل الحيوانات و الحشرات الصغيرة والحلزونات والخنافس والطيور والقوارض التي بلغت حوالي  900  نوع معروف حتى الآن ،وكل جزء من النبات له حيوانه المفضل فالجذور تهاجمها الديدان الخيطية والجذع تفضله يرقات الخنافس والأوراق يهاجمها  100  نوع من يرقات الفراش والعث . لكن بعد أن انتشر هذا المشروب في كل أنحاء العالم بدأ الجدل العلمي والطبي يدور حول مدى نجاعته للإنسان حيث يُنسب إليه الكثير من الأمراض فحسب ما وجد فريق الباحثين من جامعة "ديوك " أنه توجد علاقة وثيقة بين تناول الكافيين مع وجبات الطعام وبين زيادة مستوى السكر والأنسولين لدى المصابين بالنوع الثاني من السكري وبعض أمراض القلب. كما أنها ارتبطت بمشاكل أخرى مثل الذاكرة المؤقتة وتذكر بعض الأسماء و التشوهات الخلقية للجنين و موت الأجنة والقلق والصداع والأرق وهشاشة العظام وفقر الدم . لكن نفس المخابر التي أدانت القهوة ظهرت فيها أيضاً دراسات اتخذت منحى علمياً آخر شجّع الإنسان على تناولها بجرعات محددة بسبب الدور الذي تلعبه في الحد من حدوث بعض الأمراض فمثلاً أثرها الجيد على سرطان الكبد ومرض باركنسون ومرض السكري من النوع الثاني وطنين الأذن عند النساء. وعموماً بدأت الدراسات أولاً بالتعرف على هذه النبتة جينياً وحسب الباحث "فيليب لا شرميس " فإن الدراسة القائمة على مُجين القهوة المتتالي بغية تحسينه أفضت إلى أن نبات القهوة قد تطور بشكل مستقل عن الشاي والشوكولا أي أن القهوة لم ترث الجينات المرتبطة بالكافيين من أسلاف معروفين لكنها قامت بتطويرها ذاتياً ،وقال الباحث "لاشرميس " أن هذه الدراسة ساعدتهم للوصول إلى العديد من الاستنتاجات التي تفسر تميز هذا المنتج لهذه الدرجة ،فقد استطاع الباحث مع فريقه وضع التصور الأولي للمُجين الخاص بما يسمى "بُنّ كانيفورا " وقاموا بدراسة مدى اختلاف التوليفة الجينية الخاصة بالقهوة مع غيرها من النباتات مثل العنب والطماطم، وارتبط بهذه التوليفة مجموعات كبيرة من الجينات التي علاقة مع إنتاج المركبّات الشبه قلويه والمنكّهات المرتبطة بنكهة القهوة ومرارة الحبوب. وقد وجد الباحثون أن الأنزيمات الخاصة بالقهوة أكثر قرباً للجينات ضمن نبتة القهوة ذاتها أكثر من أنزيمات القهوة المرتبطة بمنتجات الكافيين كالشاي والشوكولا المشابهة لها مما يعطي فكرة عن التطور الذاتي للقهوة وكشف النقاب عن قصة الكافيين ذاتها ،ووجدت الدراسة ذاتها انه حتى الحشرات التي تساعد النبتة على الإلقاح قد تُدمن كالإنسان العودة للنبات مراراً وتكراراً. لكن السؤال الفعلي هو هل يوجد فعلا علاقة بين شرب القهوة وبين الحد من حدوث بعض الأمراض ؟

القهوة وسرطان الكبد :
حيث حسب الدراسة التي قام بها "كارلو لا فيكيا " والتي أكدت على أهمية شرب القهوة وأثرها الجيد على الكبد ، فالكبد الطبيعي يُفكك القهوة من خلال نظام أنزيمات يسمى ب "microsomal" و استقلاب القهوة يعتمد على حالة النظام الأنزيمية للكبد . بعد أن تمت دراسة حوالي 3153 حالة وجد الباحثون أنه قد توجد علاقة بين ارتفاع استهلاك القهوة وبين التقليل من مخاطر الإصابة بما يسمى ب "السرطانة الكبدية " حيث أنه يفيد أنزيمات الكبد وحالات تشمّع الكبد لكن ما لم يكن واضحاً هو حقيقة دور القهوة في ذلك والذي قد يكون محدوداً لو تمت مقارنته بالمقاييس الضرورية للحد من انتشار سرطان الكبد والتي تتمثّل في استخدام اللقاح الخاص بالتهاب الكبد من نوع  B والحد من انتقال فيروس التهاب الكبد النوع  C إضافية إلى التخفيف من تناول الكحول وهي التي يتم التركيز عليها أكثر الآن .

القهوة والسكري من النوع الثاني :
وُجد أن استهلاك كوب وكوب ونصف يومياً لمدة أربع سنوات يخفف من مخاطر الإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري بنسبة 11 % بالرغم من أن تناول القهوة والشاي هما من المسببان للإصابة به . لذلك نُشر في مجلة "Diabetologia" أنه حسب دراسة الدكتور " فرانك هو " مع "شيلبا بوبا ثيراجو " في قسم التغذية في جامعة هارفارد في "بوسطن " أنه صحيح القهوة والشاي مرتبطان بالإصابة بالنوع الثاني من السكر إلا أنهم وجدوا أنه بعد دراسة دامت 20 عاماً وضمّت أكثر من 100 ألف شخص أن التغيير الذي يحصل في عادة استهلاك القهوة له تأثير ما على عامل الخطورة في الإصابة بالمرض فالأشخاص الذين ازداد لديهم استهلاك القهوة انخفض لديهم عامل الخطورة بالإصابة من السكر النوع الثاني.

القهوة ومرض باركنسون :
صحيح أن العوامل الوراثية والبيئية هما في علاقة تأثير متبادل مع بعضهما ومؤثران مهمان على ظهور أعراض مرض باركنسون الذي لديه تاريخ معقد ومركب من العوامل الجينية والتعرض لعوامل بيئية تلعب دوراً كبيراً في ظهوره ، فوجد العلماء أنه الجينة المسماة "GRIN2A" تحمي من حدوث المرض فالإنسان الذي يوجد لديه هذه الجينة تنخفض لديه نسبة الإصابة بالمرض، أما التفسير الثاني للدراسة والذي له شقّ جُزيئي فإنه يعتبر أن زيادة المدخول من الكافيين له تأثير على تطور مرض باركنسون لأن الكافيين يتكامل مع مستقبلات الدوبامين التي تُنظم تدفق الكالسيوم إلى الخلايا ،ومن هنا يُعتقد أن الأشخاص الذين لديهم تغييرات جينية معينة ليسوا محظوظين كغيرهم من خلال استفادتهم من كوب القهوة وبالتالي لن يستمتعوا بنتائجه التي ستحميهم من المرض كغيرهم .

القهوة وطنين الأذن :
تتمثل الأعراض المعروفة بمرض "طنين الأذن " بسماع رنين أو طنين عند الأذن مع غياب أي مصدر خارجي للأصوات لدى النساء في مقتبل العمر ومتوسطه كما وجد العلماء أن هذه الأعراض لها علاقة مع مدخول الكافيين، وبعد أن رصدت الدراسة حالة  65  ألف امرأة من قبل الباحث "غاري كورهان " في كلية هارفارد الطبية أنه النساء ذات المدخول الأعلى من الكافيين قد انخفضت لديهن نسبة الإصابة بطنين الأذن بنسبة  15 % ولم يعرف السبب الحقيقي لكن حسب قول الدكتور «كورهان » أن القهوة تلعب دوراً في تحريض الجهاز العصبي المركزي إضافة إلى أثر الكافيين المباشر على الأذن الداخلية في الدراسات التي أُجريت على الحيوانات وما زالت الدراسات قائمة لتأكيد صحة هذا الموضوع . وهكذا مهما طالت رحلة القهوة أو قصرت يبدو أنها تخطط للبقاء طويلاً في فناجين البورسلان خاصتنا وستبقى رائحتها خيوطاً تشد أوتاد أحاديثنا الحلوة أو المرّة مثلها وستبقى كما قال المثل التركي القهوة سوداء كالجحيم وقوية كالموت وحلوة كالحب بالرغم من كل شيء .

مجلة الأدب العلمي العدد الخامس عشر  ظواهر وخفايا

0 comments: