Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

تعشيق الخيال العلمي بالأدبي في تجربة المانغا اليابانية Ghost Hound ... الأدب العلمي العدد الثالث عشر


جينا سلطان
باحثة من سورية 

حين ارتسم الإنسان على صفحات الكون مشروعاً للسؤال ، نهضت مقومات الأجوبة في داخله شذرات غامضة تنتظر أشكالاً  لونية تتلبسها ، مما جعل لعبة الصور المتحركة وسيلة فعالة في إنضاج الوعي واكتماله . ولما نشدت الثغرات الإدراكية المبعثرة بين القلقين المتسائلين كثافة التحقق ، نهض السفر في بحور العلم قبساً لجواهره عاملاً حيوياً يدعى التواصل التكافؤي .
انتبه صناع الثقافة اليابانية إلى أهمية مسلسلات الرسوم المتحركة في تحفيز عامل البحث والتقصي عند الفتية اليافعين، فحملوها بأحدث الأفكار العلمية التي تمت مُزاوجتها بالموروث الفكري المنتثر عبر الثقافات الإنسانية العريقة. وربما كان مسلسل إيرغو بروكسي هو الألصق في الذاكرة الأوروبية والأمريكية القريبة، بصفته دحضاً متقناً لفلسفة الوجود الغربية، وإطاراً درامياً مؤثراً يحكي قصة ولادة الحب النقي تحت ظروف الأتمتة البشرية واحتضار النزعة النبيلة في الإنسان.
أما مسلسل "ghost hound" أو الروح المتحولة فيعد من الأعمال الحديثة نسبياً، إذ يعود تاريخ إطلاقه في السوق الإنتاجية إلى العام 2007 ، وقد نُوقشت فيه أحدث النظريات العلمية ضمن الإطار الأخلاقي الذي يحترم العقائد الإنسانية الحقيقية، أي أنه حقق الرابط التعليمي والتثقيفي في العملية التربوية.
تدور أحداث المسلسل في الزمن الحالي ضمن بلدة يابانية تقليدية، تدعى سوتين يقوم على تخومها معهد التقانة الحيوية حيث تجرى أبحاث متطورة حول زرع الخلايا السلالية، التي تستخدم في عمليات زرع الأعضاء البشرية. يتم تحريك المسلسل درامياً عبر حادثة اختطاف قديمة أودت بحياة فتاة صغيرة، مما وضع شقيقها الأصغر تارو الذي كان بصحبتها، في رهان عقيم مع الزمن من أجل محاولة استعادة كلماتها الأخيرة الغارقة في ضباب الذاكرة. تتكرر حوادث الخطف دون أن يتم العثور على الجناة، ثم تتوقف فجأة كما بدأت، وتمر سنوات عشر تصبح فيها البلدة مكانا يضج بالأرواح المفارقة لأجسادها، فيحضر طبيب متخصص من العاصمة طوكيو يدعى هيراتا  لمساعدة تارو الذي كان الناجي الوحيد آنذاك، وأول من مارس تجربة الخروج من الجسد، التي أطلق عليها اسم الإسقاط النجمي.. شخص هيراتا حالة تارو على أنها نوع من الحقد الممزوج بالخوف والقلق، واعتبر أن مثل هذه الاندفاعات العاطفية تقيد المجتمع وتستمر في تغييره. وقد قامت نظريته حول البحث عن إمكانية تعديل النظام الجبري للانفعالية الإنسانية والذي يتركز حول منطقتي اللوزة وفرس النهر المخيين، من أجل بلوغ البشر ثقافة أفضل ومجتمعاً أكمل. ولأن البلدة تمثل اليابان القديمة لذا لا بد أن يتواجد فيها معبد شنتوي في أعلى الجبل، يقوم على خدمته كاهن شاب مثقف مع ابنته الصبية مياكو التي تتعرض إلى استحواذ طيفي مركز يسلبها وجودها في محيطها الاجتماعي. حيث تسمي كاهنة منافسة حالة الفتاة بشامانية الاستحواذ، بينما تدعو حالة تارو بشاماني الغيبوبة.
يطور الفتى تجاربه في الخروج من الجسد متوصلاً إلى حالة من الوعي المعدل، تجعله يكف عن الحلم بأخته، وهذا يعني أنه استطاع إحكام السيطرة على مخاوفه، أما الفتاة فتبقى تحت وطأة الاستلاب الطيفي الذي يعرف عن نفسه لاحقاً باسم الكوجيكو أو سيد الكلمة الواحدة، المتحكم بأقدار الأطياف الطيبة والشريرة، ما يعني أن مياكو ولدت مزودة بالقدرة على تهدئة الأرواح المضطربة، أي أنها طفلة مشرقة، وهذا الأمر يعرضها لاستغلال الكاهنة المنافسة. يعزو هيراتا مرور البشر بتجارب الرؤى الغريبة إلى خضوعهم لتأثير حالة من الوعي المعدل المترافق بتغير في حالات الإدراك الاعتيادي المتأتي عن حرمان النوم مثلاً أو منع الأوكسجين، أو الصوم والحمى، وهذا الوعي المعدل هو الذي مكن هيراتا أثناء الاستماع إلى أشرطة تارو المسجلة عن أحلامه الخاصة، من سماع كلمات الفتاة المحتضرة التي عجز عن التقاطها شقيقها تارو، وفسر الموضوع على أنه نوع من التزامن، كان من نتائجه أن أُصيب هيراتا بنوع من الخرف يدعى بخرف جسيمات ليوى المعروفة بالهلوسات التي لا يميزها المريض عن الحقيقة. ويعود إلى العالم النفسي «يونغ » تفسير موضوع التزامن على أنه يمثل المبادئ الكونية وأشكالاً من الوعي يعجز البشر عن إدراكها، إضافة إلى تأكيده لتواجد الكون بأسره داخل الإنسان. نفس الشيء ينطبق على الذكريات، التي ليست جزءاً واحداً من الدماغ فقط ، بل هي أشبه بشيفرة منتشرة على الجسم كله، مما يفسر تلك الفاعلية الطويلة الأمد التي تملكها. وبينما يحلق تارو في الفضاء التجريدي، الذي يشكل مع العالم الحقيقي صوراً هولوغرافية / ثلاثية الأبعاد/ تعكس الوعي من أبعاد مختلفة، يتوصل المختبر التقني إلى تطوير مصفوفة الانبثاق، وهي رمز مختصر لعملية تشكيل الحياة، التي تعني بالدرجة الأولى توجيه الخلايا ذاتية السلوك ودفعها للعمل كدماغ خارجي مستقل خال من الذكريات يتشاطر مع البشر نفس البيانات ما يجعلها تحتل مكانها في النظام البيئي كأشباح أو برامج تقابل وعياً بشرياً معيناً. كان الطب الحديث ينتظر بلهفة وصول الخلايا المسماة بالسلالية الجينية لكنها لم تبلغ المستوى التام، أي بقيت تلك الكائنات المسماة بالبيوويدز بعيدة عن تعريفنا لكلمة أحياء، فهي أجسام عضوية تتواجد بهدف إنماء الأعضاء التي تعتمد الحمض النووي الريبي المتلقي، أي أنها ليست حية إذ لا تملك أدمغة فردية، وكل نشاطاتها التي تقوم بها ناتجة عن الكمبيوتر الذي يتحكم به البشر، إضافة إلى أنها عاجزة عن التكاثر. بالمقابل قد يحدث الاستمرار في إنماء خلايا جينية اصطناعية مبرمجة جينياً خارج الجسم تشوهات في الجينات والصبغيات، لأنه يحيط بكل شخص حقل كهرومغناطيسي يدعى الأورا، وتداخل هذه الحقول مع ترددات الأطياف يحدث طفرة في الوعي الجمعي تجعل الناس يرون أرواحاً وهلوسات، وهنا تبدأ أبعاد المسألة الأخلاقية التي يناقشها المسلسل من خلال دائرة الدين  السلطة  العلم. حيث لدينا مسلمة تقول إن توازن العالم شيء قد لا يستطيع البشر فهمه، فإذا قبلنا بوجود مثل هذه الكائنات الناقصة، لربما أمكن عندئذ تفسير التخلخل الذي أصاب المسارات الذهنية لسكان البلدة، أي أن كائنات البيوويدز هي السبب في إفساد التوازن الكوني، ولكن من جهة أخرى قد يغدو البشر سبباً في تشكيل الآلهة فيما لو نجحت أمثال هذه التجارب..
في كل مكان من أنحاء العالم نجحت العمليات التي تشمل الخلايا السلالية المستنسخة في نفس الوقت إلا في اليابان. بدا هذا السؤال مفتاحاً يقدم إيضاحاً لعمليات الخطف التي جرت بالتزامن مع قيام التجارب في المختبر، حيث تم استخدام أجساد أولئك الأطفال في تجارب البحث العلمي، الأمر الذي طوق المنطقة بلعنة ما لبثت أن تكاثفت حتى دمرت مركز الشر في البلدة، واحتاج إلغاؤها تضافر أرواح الكهنة من مختلف الطوائف لإعادة أرواح كائنات البيوويدز إلى العالم الخفي الذي انبثقت منه، وبذلك يكون الخيال الأدبي قد ملأ الثغرات التي تركها وراءه الخيال العلمي. على صعيد آخر ظن هيراتا العلاقة بين الحقد والخوف والذكريات، عيباً في النظام الجبري لمنطقتي اللوزة وفرس النهر في الدماغ، ولكن تارو كان الأول برأيه الذي استطاع أن يسيطر عليها، فتقبله الإيجابي للواقع وتنحيته لردود الأفعال الانتقامية مكنه من تجاوز تيه العالم الافتراضي وفخاخ الذكريات المشوشة.

0 comments: