Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

ليوناردو دافنشي اشتهر بالموناليزا وأبدع في رسومات الآلات الطائرة ...الأدب العلمي العدد الثلاثون


محمد حسام الشالاتي

إنه رجل عبقري ذو موهبة فذة ينتمي إلى عصر النهضة ،وكانت لديه اختراعات غريبة ورائعة ، حيث كان رساماً ، نحاتاً ، موسيقياً ، مفكراً ، عالم نبات ، جيولوجياً ،مهندساً ، مخترعاً ، معمارياً وعالِماً إيطالياً مشهوراً . وكان دائماً ما ينتج أشياء جديدة بعبقريته ، ومن تلك الأشياء وضع رسومات لآلات طائرة لا تقل شأناً عن رسم لوحته الخالدة "الموناليزا" .... باختصار؛ إنه أحد أعظم عباقرة البشرية .

مَن هو دافنشي ؟
ولد «ليوناردو دي سير بيرو دا فنشي » في بلدة «فنشي» ( 1)الصغيرة التابعة لـ «توسكانا » في مقاطعة «فلورنسا » الإيطالية يوم 15 نيسان من عام 1452 ، وتوفي في فرنسا يوم 2 أيار من عام 1519 . وكان الابن الأكبر غير الشرعي لكاتب العدل الخامس والعشرين «سر بييرو دا فنشي » المُنتمي لعائلة ثرية، ولامرأة من طبقة دنيا تُدعى «كاثرين »، مما جعله يفتقد حنان الأم في حياته. برزت أمارات نبوغه وتنوُّعِهِ الاستثنائيين منذ نعومة أظفاره، وأظهر مهارات عالية في حقول الرياضيات والموسيقا والرسم. وكانت طريقته في الكتابة من بين العناصر المُثيرة للاهتمام في حياته، فقد كان أعسر ويكتب بالمقلوب فيما يُعرف ب «خط المرآة »، ما أنبَأ عن قدرته في رؤية العالم بطريقة فريدة من نوعها.
في منتصف القرن الخامس عشر استقرت عائلته في مدينة فلورنسا، والتحق ليوناردو بمدارس فلورنسا حيث تَلقَّى أفضل ما يُمكن أن تُقدِّمه هذه المدينة الرائعة من علوم وفنون (فلورنسا كانت المركز الرئيسي للعلوم والفن في إيطاليا). وبشكل مثير ولافت، كان ليوناردو يُحرز يوماً بعد يوم مكانة اجتماعية مرموقة، فقد كان وسيماً لَبِق الحديث رائعة على الإقناع. وفي عام 1466 أدرك والده أن لابنه موهبة نادرة في الرسم، فأخذ بعض أعمال ليوناردو إلى الرسَّام والنَّحَّات «أندريا ديل فيروكيو » الذي كان فنان ذلك العصر في الرسم والنحت، فاستشفَّ فيروكيو موهبة الصبي ابن الأربعة عشر عاماً وقبِلَهُ تلميذاً لديه في مشغل الفنون الذي يملكه، مما مَكَّن ليوناردو من التعرُّف عن قُرب على هذه المهنة ونشاطاتها من الرسم إلى النحت. وفي عام 1472 أصبح عضواً في دليل فلورنسا للرسامين، وفي عام 1476 استمر الناس بالنظر إليه على أنه مُساعد «فيروكيو » إذ كان يُساعده في الأعمال الموكلة إليه. وفي عام 1478 استطاع ليوناردو الاستقلال بهذه المهنة وأصبح مُعلِّماً بحد ذاته. وبعد أن أصبح اهتمام الشاب ليوناردو بفن الرسم وبصناعة أشياء خيالية أكثر وضوحاً، أرسله والده للعمل في مشغل أندريا فيرويكو بدايةً من عام 1469 إلى عام 1470 ، وخلال هذين العامين كان هذا المشغل يُعدُّ من أهم المشاغل في فلورنسا فضلاً عن أنه كان مرتعاً حقيقياً للمواهب الجديدة .
ومنذ عام 1482 وحتى وفاته تنقَّل ليوناردو بين مدن ميلانو والبندقية وفلورنسا وروما ثم فرنسا للعمل كرسَّام أو مهندس مدني أو معماري، حيث كرَّس الفنان نفسه في تلك الأماكن لدراساته العلمية ودراسة الميكانيكا، وحقَّق اختراع آلات عسكرية وتطوير تقنيات مختلفة وانهمك بمشاريعه الهندسية وبتجاربه العلمية.

ابتكاراته الطائرة
على الرغم من كَمِّ الإنجازات الهائلة التي تركها ليوناردو دا فنشي في مجالات مختلفة، إلا أن أكثر ما اشتُهِرَ به هو رسمه للوحة «الموناليزا » أو («الجيوكاندا »)، ورسمه الآخر للوحة «العشاء الأخير »، وتصاميمه المُتجسِّدة في رسومات تجريبية لآلات طائرة مختلفة سابقة لعصرها.
ويبدو أن ثقته بقدرة الإنسان على الطيران لم تتغير طوال حياته، فأمضى سنوات وهو يفكُّ طلاسم تحليق الطيور ويبتكر تصاميم لآلات طائرة، وذلك ضمن المفاهيم والمُخطَّطات الكثيرة التي وضعها وجعلته يعتلي مكانةً شبه أسطورية. ففي عام 1486 أعرب ليوناردو عن إمكانية طيران الإنسان باستخدام آلة، حين قال: «قد يستطيع الإنسان الطيران إذا تجانَسَ جسمه مع جناحين يؤمِّنان له قوة مُقاومة ضد الهواء وقدرة على الارتفاع والهبوط ». وخلال الفترة من ١٤ آذار إلى ١٥ نيسان من عام 1505 كتب عن أعضاء الطيور التي تُمكِّنها من القدرة على الطيران ليستنتج سبب تحليقها؛ فقياساً إلى وزن وجناحي الطائر، قد يكون لدى الماكينة القدرة والقوة للتحرُّك والثبات في الهواء. كما رَسَمَ مئات الصور للطيور وهي تُحلِّق، محاولاً فك الأسرار الكامنة وراء طيرانها. ووسَّع دراسته في عام 1508 عبر تشريح الطيور ودراسة تكوين أجنحتها، ثم دَرَسَ مُقاومة الهواء لجسم يتحرَّك خلاله. وفي عام 1515 أضاف إلى أبحاثه تلك دراسة السقوط من الارتفاعات وحركات الهواء. لكنه لم يستطع قط أن يسبر أغوار فيزياء الطيران. ففي بداية رسمه مُخطَّطات آلات طائرة وَضَعَ تصميماً لآلة خفَّاقة تتحرَّك بالقوة البشرية وتَخفق بجناحين ميكانيكيين كبيرين، أي تلك التي تُحاكي الخُّفاش أو الطير. وتَوَصَّل إلى أنه ليس بمقدور الإنسان أن يقود آلة بهذه الضخامة، لأن البشر لا يملكون ما يكفي من قوة العضلات لترفع ثِقلهم حتى مع جناحَي ليوناردو المُبتكرَين، فَفَكَّرَ في استخدام نظام دفع لتزويد الجناحين بالطَّاقة، ولكنه استنتج أن نظام الدَّفع هذا لن يستطيع إبقاء أي شيء في الجو لفترة طويلة وأن الأمر الأفضل للطيران البشري هو أن لا يخفق الطيَّار بجناحيه بل أن يبقى ثابتاً في آلته وينزلق في الهواء، فاتجه إلى ابتكار نظام انزلاق مع جناحين وذيل يُستخدَمُ في توجيه الآلة، وأصبحت آلاته الطائرة اللاحقة قريبة جداً من «المنزلِقات » (الطائرات الشراعية). أما الآلة التي رَسَمها وكان لديها الاحتمال الأكبر لكي تطير (ولم تكن تُعجبه)فهي الطائرة العمودية، فقد صاغ خططاً دقيقة لتصميم آلات طيران لا تختلف كثيراً عن الطائرات العمودية. ففي ثمانينيات القرن الخامس عشر اقترح فكرة مركب على شكل طائرة عمودية عندما رَسَمَ مُخطَّطاً لـ «اللولب الجوي » الذي أعطى إشارة عن الحركات السريعة والدوَّارة للطائرات العمودية الحديثة، ولو كانت لديه فكرة عن تشغيل تلك الآلية لنجحت على الأرجح. وقد استوحى المُخترِع «إيغور سيكورسكي » من نماذج ليوناردو تصميم الطائرات العمودية خلال النصف الأول من القرن العشرين. إن أولى الدراسات والتصوُّرات النظرية عن الهبوط بأداة تُشبه المظلة كانت على يد عبقري عصر النهضة «ليوناردو دا فنشي » الذي رسم عام 1495 مُخطَّطاً لمظلة هبوط هرميَّة، أطلق عليه اسم «سقف الخيمة .» ولذا فإن «دا فنشي » يُعتبر مُخترع تصميم المظلة، إذ كتب يقول: «إذا كان لدى الإنسان شيء قوي على شكل هرم يصدّ الريح، مثل القماش القوي (أربع قطع مثلثية من القماش القوي)، عرضه 44×12 سنتيمتراً، وارتفاعه 12 سنتيمتراً، فعندئذ سيكون قادراً على أن يهبط من أي ارتفاع كان دون أية خطورة ». هذه الفكرة التي لم ترَ النور  تطبيقاً  تصح لسقوط إنسان مُعلَّق بقماش مساحته 60 متراً مربعاً. وعلى الرغم من عدم وجود معلومات واضحة عن مُقاومة الهواء في ذلك الوقت، إلا أن هذه الأرقام والمعلومات المُحدَّدة عن الهبوط شبه صحيحة، وقريبة من أرقام المظلات الحديثة. وقد ترك لنا دا فنشي بضعة أشكال مرسومة توضح كيف تعمل تلك الوسيلة للقفز بها. وتطلَّب الأمر بعده قروناً عدَّة قبل أن يُطلِقَ مُخترعون آخرون أجهزة مُماثلة مُنقذة للحياة. في عام 1950 ، قام العالِم الأمريكي في الوكالة القومية الأمريكية للطيران والفضاء «ناسا »، البروفسور «فرانسيس روغالو » بصُنع نماذج أجنحة ليِّنة قابلة للالتواء على شكل حرف دلتا Δ، وذلك في معرض استنباطه طرقاً لاستعادة مركبات الفضاء المأهولة. وهذه النماذج شكَّلت فيما بعد الأساس لنوع جديد من الطائرات الرياضية «الطائرة الشراعية المُعلَّقة » (2). إن هذا الإنجاز الذي حقَّقه روغالو كان «ليوناردو دا فنشي » قد تخيَّله قديماً عندما وَضَعَ خططاً دقيقة لتصميم آلات طيران لا تختلف كثيراً عن الطائرات الشراعية، مُتصوِّراً إمكانية الطيران عبر التعليق بما يُشبه «طيَّارة الورق» ،فصمَّم أنموذجاً لطائرة شراعية قبل اختراع الطائرة الشراعية الحديثة بأربعمئة وتسعين عاماً، وإن كان ذلك الأنموذج يحمل مشكلة أساسية مقصودة تتمثَّل في مُبادلة ليوناردو بين مُقدِّمة ومؤخِّرة طائرته الشراعية كي لا ينجح أحد في الطيران بها، وذلك كعادته في كتاباته المُشفَّرة وفي تعمُّد وصف الأشياء بشكل خاطئ بُغية حماية اختراعه من السرقة! وقد صمَّم بعض العلماء مؤخراً نسخة مُصغَّرة عن ذلك الأنموذج بغية التحقُّق من إمكانية الطيران به، عندما قاموا بصُنعه بشكل مُعاكِس، فلم ينجح بشكل كامل. ثم قاموا بتصميم أنموذج حقيقي تَمَكَّنَ أحد الطيَّارين من الطيران به بعد إجراء تعديلات طفيفة عليه.

إبداعات طائرة لم يُحلِّق بها!
على الرغم من أن رجل النهضة الأول لم يقم باختبار الآلات الطائرة التي وضعها في رسوماته التجريبية، إلا أن اختراعاته تلك كانت على درجة عالية من الإبداع دفعت المُخترعين اللاحقين له بعد وفاته إلى الاعتماد عليها وتنفيذها عبر إعادة اكتشافها وتصنيعها واختبارها ولو بعد مُضِي قرون من الدهر، ما يؤكِّد أن ذلك العبقري الذي شكِّلَ الطيران هاجس حياته كان سابقاً لعصره، وهو الذي قال ذات يوم: «إذا تذوقت مرة واحدة طعم الطيران، فإنك ستمشي على الأرض وعيناك مُتّجهتان نحو السماء دائماً، لأنك كنت هناك، ولأنك ستشتاق دوماً للعودة إلى هناك ». ومن على فراش الموت عام 1519 ، قال ليوناردو إن من بين الأمور التي يأسف عليها، كونه لم يُجرِّب أيّاً من آلاته الطائرة بنفسه ولم يستطع الطيران قط!

الهوامش :
(1)   عبارة «دا فنشي » باللغة الإيطالية ليست لقب شُهرة، بل نسبة إلى بلدة «فنشي »، أي أن الشخص المَعني ينحدر من تلك البلدة، وذلك مثلما نستخدم «ال » التعريف في اللغة العربية، فتُنسَب بعض العائلات في بلادنا إلى أماكن مُعيَّنة مثل عائلة «الشامي « ،» الحلبي « ،» الحمصي » وغيرها...
(2)   الطائرة الشراعية المُعلَّقة: عبارة عن جناح أو شراع خفيف مصنوع من النايلون الخفيف الملفوف على هيكل معدني خفيف أيضاً، يحمل في أسفله الطيَّار وأنابيب معدنية أخرى للتوجيه وحبال لحمل الطيَّار وبقية الأدوات، حيث يتعلَّق الطيَّار بالجناح بوساطة شرائط؛ ومن هنا جاءت تسمية «الطائرة المُعلَّقة».

المراجع :
- كتاب «بسائط الطيران » - الدكتور أحمد الكرداني - القاهرة 1925 .
- كتاب «قصة الطيران » - شفيق جحا و جورج شهلا - القاهرة 1948 .
- كتاب «الطيران و روَّاده في التاريخ الإسلامي » - الدكتور قتيبة الشهابي - دمشق 1999 .
- كتاب «رياضات الطيران » - محمد حسام الشالاتي - دمشق 2004 .
- كتاب «الوجيز في علوم الطيران » - محمد حسام الشالاتي - وزارة الثقافة-الهيئة العامة السورية للكتاب - دمشق 2015 .
- كتاب «سلسلة أعلام للناشئة - أعلام في تاريخ الطيران » - محمد حسام الشالاتي – وزارة الثقافة - الهيئة العامة السورية للكتاب - دمشق 2015 .

0 comments: