Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

مسرحية عائلة السيد رقم 1 مسرح الخيال العلمي بين جيلين ...الأدب العلمي العدد الحادي عشر


د. مدحت الجيار

إذا تناولنا جيلين من كتاب المسرح فإن محاولات الاستفادة من خيال العلم في إثراء خيال الأدب كانت ناجحة على يد الرائد توفيق الحكيم ،كما كانت موفقة مع جيل آخر يأتي الآن يمثله صلاح معاطي حيث كانت مسرحية –رحلة إلى الغد –لتوفيق الحكيم (1978) فاتحة جيدة لمسرح الخيال العلمي المستفيد من رحلات الفضاء وسفن الفضاء وما يعد للرائد من استعدادات وتجهيز على الأرض ثم في الفضاء ، في سياق تسابق المعسكرين .
وكان ذلك مناسباً لزمن توفيق الحكيم حيث كانت رحلة الغد ( جاجارين) بدايتها مع منتصف الخمسينيات بينما يستفيد صلاح معاطي من منجز العصر ( الإنسان الآلي) الذي يسيطر الآن في تسيير كل شيء خارج حدود الجسد البشري .
ومن ثم كانت تخيلات صلاح معاطي من قبيل الخوف والتحذير، فيما كانت تخيلات توفيق الحكيم من قبيل الفرح بانتصار الإنسان ومنجزه العلمي، وذلك في مسرحيته (عائلة السيد رقم 1).
ويعني ذلك أن الكاتب المسرحي لا ينفصل عن واقعه من ناحية، أو عن آخر منجزات الحضارة من الناحية الثانية. فتوفيق الحكيم يخرج سجينين محكوم عليهما بالموت عبر الفضاء، والسجين في قوانين الأرض محكوم عليه بالموت فيها ولهذا يعطيه الفضاء حرية مزدوجة من الخروج من السجن الأرضي، ومن سجن الكوكب نفسه في الفصل الأول.
ثم يأتي الفصل الثاني لنجد السجين في صاروخ عابر لجاذبية الأرض، مكتشفاً الزميل الثاني يأتي الفصل الثالث على ظهر الكوكب المجهول حيث يكتشفان أن الجرح لا ينزف دماً وأن النزيف لا يميت حتى لو كان شرياناً مقطوعاً.
وهكذا تقوم حياة كلها من دورات الكهرباء التي حولت الجسم إلى جسم معدني كهربائيي فعل كل شيء ويجسده بإرادته وخياله. وهنا يستحضر كل منهما ما يشاء من الطعام والشراب والنساء والأصوات والمشاهد مثلما يريدان.
ويمكن لهما بالقوة نفسها إرجاع كل شيء إلى العدم. ويعني هذا في نظر توفيق الحكيم وصول الإنسان إلى الحرية: المادية بتحرر الإنسان من آلية جسده. ومعنوياً بالخلق والمحو وكأنهما يلعبان بكل شيء في حرية مطلقة بلا حدود- بينما تتقهقر فكرة الموت . وينقلنا الحكيم إلى مشهد إصلاح الصاروخ تمهيدا للفصل الرابع أعني العودة إلى الأرض-وهنا يؤكد المؤلف نسبية الزمن، ونسبية الحياة، ونسبية الموت من خلال رحلة الوصول والعودة من الأرض إلى القمر أو الكوكب المجهول والعودة.
وهنا يصف الإنسان العالم بأنه فأر تجارب فقد مر عليهما ثلاثمئة عام بحساب سنين الكوكب المجهول بالنسبة لحساب الأرض. وهو سن الشيخوخة الجديد. وبالتالي فالحرب الذرية قد وقعت على الأرض وهما بعيدان عنها وتحول كل شيء إلى تاريخ قديم على الأرض مما قضى على فكرة الحرب المدمرة فعم السلام.
ومن ثم استخدم العلم لصناعة السلام والتطور على ظهر الأرض. وهذه هي رسالة المسرحية إلى أهل الأرض في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وفي ظل التسابق في امتلاك الأسلحة الذرية. وبالتالي ينهي الحكيم مسرحيته بعودة الإنسان إلى تركيبه الذي خلق به أعني مزيج العقل والعواطف وفي ظل السلام، والتقدم العلمي. وبذلك تنتهي المسرحية بانتصار الإنسان على الآلة.
هذه هي محاولة الحكيم أعني رسالة الإنسان في اكتشاف ما يحيط به من عوالم وكواكب ليحقق رسالة إنسانية بتدعيم إنسانية الإنسان رغم كل تقدم علمي مهما يكن مداه. وقد رأيناه يكتشف بالسجينين بعضاً من ملامح الخلود وملامح الحرية ولكنه أعاد الأمر في النهاية إلى ضرورة أن يعود الإنسان لخلوده المؤقت وحريته النسبية .
وأشار إلى ضرورة أن يتمسك الإنسان بإنسانيته مهما تكن ظروف الحياة فوق الأرض أو فوق أي كوكب آخر. ونلاحظ أن المعلومات التي أتيحت للحكيم حتى عام صدور هذا النص ( 1978 ) رأى منذ إحدى وعشرين سنة تقدم فيها العلم والتكنولوجيا إلى أبعد مما يتصور الحكيم فقد غزا الإنسان مجموعته الشمسية وأرسل سفنه إلى الشمس نفسها واكتشف أسرار الكواكب وسيطر على هذه المجموعة الشمسية كلها.
وهذا ما حدث بعد عشرين عاما ( 1998 ) في مسرحية خيال علمي جديد (عائلة السيد رقم 1) لصلاح معاطي، وقد قامت هذه المسرحية على التقدم التقني في عمل ( الإنسان الآلي) أو « الروبوت » حيث تخيل المؤلف حياة جديدة للإنسان الآلي الذي ارتقت صناعته وعلت حساسيته ودق أداؤه حتى وصل إلى حالة نادرة من إدارة الأعمال  وقيادة المؤسسات ثم التفكير المستقل. بعدها أخذ كل صفات الإنسان المبرمج وأضاف إليها الانضباط السلوكي والنفسي. ونرى في المسرحية أجيالاً من « الروبوت » متعددة المستويات والمراتب حتى شكلت أسرات تشبه إلى حد مذهل أسرة الإنسان البشري. وهنا دب الوهن في صفوف هذه الآلات الدقيقة، وبدأت تتصرف بغير الانضباط الآلي. وبدأ الآباء والأمهات ويعانين من تصرفات الجيل الجديد غير المنضبط من « الروبوت » حتى « عايره » الجيل السابق بأنه يشبه الإنسان البشري.
ويضع المؤلف- في هذا السياق- ما تبقى من الإنسان البشري في وضع الخدم « العراة أمام الأجهزة الإليكتروني » حتى حرم عليهم الكلام والسؤال وأي سلوك غير التبعية والاستسلام، وتبدلت الأوضاع فبدل أن يأتي البشر بخدم من الآلات، تأتي الآلات بخدم من البشر تذلهم وتصنع فيهم ما كانوا يفعلون من قبل في هذه الأجهزة الدقيقة. ومن ثم أصبح الصراع على مستويين في المسرحية، الأول:
صراع جوهري بين الإنسان الآلي والإنسان البشري يحاول فيه الروبوت إحكام القبضة على البشري، خاصة أن عمره ليس مديداً كعمر (الآلي). كما يحاول البشري تجميع أكبر عدد ممكن من تعاطف البشري - في صمت- يضم إليهم ما تعاطف من (الروبوتات) مع قضية البشري وحقه في الكلام والحركة والتعبير مثله مثل ( الآلي). خاصة أن الجيل الجديد من ( الآلي) يتعاطف بحكم اندفاع الشباب العمري والآتي مع هذه المطالب ويود أن يعيشها هو الآخر. وهنا يشير الكاتب إلى أن ( الآلي)في هذا العالم المتخيل قد أصابه من عوامل السقوط والخلاعة والتفريط في الانضباط الكثير. مما يسبب الانهيار الحتمي لحضارة الآلة بالضبط كما حدث لانهيار حضارة البشري حين فرط في حقوقه المشروعة وترك الآلات تصنع له كل شيء واستنام هو واستغنى عن أخيه الإنسان في إدارة شؤون الحياة فاستعظم الروبوت وأصل نفسه محل البشري ثم تغلب عليه وقهره واستذله. أما الثاني من مستويي الصراع الدرامي في هذه المسرحية فهو الصراع القانوني والسري بين طبيعة البشر- التي تسربت إلى الآلة يضاف إليها طبيعة البشر المكبوتة داخل البشري بقمع النظام الآلي- وبين طبيعة الآلة التي وصلت إلى أقصى طاقات التخزين وحسن استخدام الذاكرة وحققت كل شيء ولم يبق لها إلا أيدي تجرب حياة الإنسان البشري الذي ترفضه ولو على سبيل المودة خاصة وأن حرص الآلي على التفوق جعله يمتلك خصائص البشري يضاف إليها طول العمر ( عدة مئات من السنيين) والقدرة على تغيير الأعضاء والمكونات بسهولة دون حدوث ما يروع. ولكن خيال الكاتب البشري جعله – وهو يطلق صرخة تحذير من طغيان الآلة على حياتنا - في صف انتصار الإنسان البشري بحصوله على استقلاله وحريته، وعودته لقيادة الكون من جديد بعد أن تعلم درس (الحرية) التي فرط فيها برعونته التي جعلته يقتل البشري بالآلي.
فلم تبق الحروب شيئاً للبشري وألقته ضعيفا قليل العدد خاصة بعد أن اخترع من الأسلحة الفتاكة التي تصيب الكائن الحي فقط دون أن تمس الآلي أو الثروات الموجودة على ظهر الأرض نتاجا للجهد الحضاري لكل أمم البشري وتاريخها الطويل، فتدعوه إلى السلام. من هنا كانت نتيجة الصراع الثانوي عودة إلى طبيعة البشري، وكانت نتيجة الصراع الجوهري انتصار البشري وعودته لسيادة الكون وعدم التفاته- مرة أخرى- لما كان عليه من سذاجة وافتقار إلى خصائص من خصائص الآلي المتحكم في عواطفه ومشاعره المكتسبة.
ويتخيل صلاح معاطي شخصيات هذا الصراع متشابهي الهيئة فهي أرقام لا تتميز إلا نسبياً. تبدأ من السيد رقم ( 1) الأب الآلي ورقم ( 3) الأم الآلية وأفراد أسرتهما( 51 ) الابن الأكبر ( 63 ) الأوسط ( 65 ) الأصغر، ( 67 )الابنة الصغرى. وبذلك تكون أرقام هذه الأسرة من أرقام لها دلالات بشرية ولها دلالات فكرية واجتماعية وسياسية وعسكرية مثل ( 67 ) التي سيخطبها رقم ( 101 ) ثم الجار رقم ( 73 )والطبيب (55). وهذه هي الأسرة الآلية بكل ما فيها من أرقام ترتبط بالسلم وبالحرب، بالهزيمة وبالنصر، بالتفاؤل أو بالتشاؤم. وقد حرص صلاح معاطي على تأكيد دلالات هذه الأرقام من خلال الحوار والحوادث التي تتصرف فيها الشخصيات الكثيرة وعددها اثنتا عشرة شخصية، بينما الجانب البشري متمثلاً في خادمين بشريين لرقم ( 1) ولرقم ( 13 ) الآليين. مما يعكس انتهاء مجتمع البشري وقيام مجتمع الآلي. الأمر الذي عكس في الوقت نفسه صعوبة تفوق البشري أو انتصاره بل استحالة تغيير أوضاعه اللهم إلا اذا جند لقضيته الجديد. كل هذه المقدمات تشي بأننا أمام عالم من فانتازيا الكتابة أمام عالم متخيل يصوغ الكاتب من خلاله مخاوفه على مجتمع البشر. وفقدانه لبشريته. وهو أمر يبدو واضحاً في علاقات السلم والحرب والتجارة والاستعمار والديكتاتورية والديمقراطية .
وكلها تتجه ناحية القوة والقدرة على الروع والسيطرة بكل وسائل التكنولوجيا. التي جعلت الكواكب والنجوم والمجرات أهدافا وملأت السماء بسفن الفاء والأقمار الصناعية والأطباق الطائرة. وأدوات السيطرة على الفضاء والأرض في آن واحد.
مما جعل التجسس والإعلام علاقتين لواقعنا الدولي. وجعل الأرض بيتاً واحداً متعدد المستويات. وجعله في حالة فوران وتسليح مادي ومعنوي من أجل البقاء للأقوى. مما اضطر الضعيف إلى الاستقواء بكل وسائل التكنولوجيا المشروعة لحماية نفسه من الجار أو من العدو المتوقع. وهنا يتوحش البشر ويمتلكون ويبالغون في امتلاك وسائل القتل والدمار من الأسلحة النووية والكيميائية ووسائل أحكام القبضة العسكرية الأرضية والكونية وبالتالي يقوم التناحر بين الدول والأمم والأفراد ويعيش الكون البشري على الكراهية أو التصارع المادي فتختفي خصائص البشر وتحل- بدلها- خصائص المادة.
وهنا مد الكاتب الخط الزمني على استقامته وخرج من نهايات القرن العشرين حتى نهاية القرن الثلاثين حيث الزمان غير الزمان، وحيث كوكب الأرض يزدحم بالآليين، كما يخبرنا الخادم البشري حيث يقول: «حيث استطاع الآليون منذ مئات السنيين أن يغزوا كواكب المجموعة الشمسية ويستعمرونها ثم زاد على ذلك بأنهم غزوا المجرة كلها بمجموعاتها الشمسية وكواكبها ونجومها ثم انطلقوا إلى الفضاء الخارجي ليحتلوا المجرات المجاورة. ولا أعرف كيف وصلت إلى الإنسان الآلي فكرة الغزو هذه ص 8 ويستطرد بقوله: « أما أنا. فأنا الخادم البشري لدى السيد رقم1 ص 9.. ويستطرد في عرض حاله الجديد بعد ألف سنة من سقوط امبراطورية البشر « إن الكلام ممنوع على البشريين طبقا للقوانين الآلية ومن يضبط منا وهو يتكلم أي كلام يعدم في الحال » ص 9، ويسرد عدد القتلى الذين ماتوا بسبب أجهزة التنصت عليهم. ثم يسرد علينا الكاتب حالات جديدة للآليين تلخص التغيرات التي طرأت عليهم بعد ألف عام من السيطرة الآلية على الكون يقول:
رقم 3 أتعجبك تصرفات ( 67 ) إلى هذا الحد؟ هل تستطيع أن تقول لي أين هي الآن . وقد أوشك موعد الغداء أن يحين؟
رقم 59 : أكيد مع 101 .
رقم 3: ( بعصبية) إنني أتعجب لك، أليس بداخلك قليل من التيار؟ هل أفرغت البطارية التي وضعناها لك،
فلم تشعر بأي حرارة على أختك؟.. » ص 23 .
ويتحول الكاتب من عقلانية الذكر الآلي وفقدان الغيرة لدى الجيل الجديد، إلى تصرف آخر على لسان رقم ( 59 ) يقول: « أنت تعلمين يا رقم ( 3) ؟ أزمة المساكن هذه الأيام. ومن شدة ضغطك أنت والسيد رقم ( 1) عليه كاد يستأجر مسكناً مفروشاً لولا أنني أقنعته بأن يتريث حتى يدرج اسمه في المساكن التي تمنحها الحكومة الآلية للراغبين في الزواج.. » ص 25 .
ثم ننتقل مع المؤلف إلى نقطة الصدام الجوهري على لسان رقم( 1) يقول :
«ولكننا نحن الآليين أقوى عقلاً وأكثر رقياً من هؤلاء البشر »
ويرد عليه رقم 3« إن ظروف الحياة يا رقم ( 10 ) لا تفرق بين آلي وبشري، فالمشكلات واحدة والظروف واحدة ونحن نعيد التاريخ مرة أخرى ولكن بأساليب مختلفة. وأخشى أن يأتي يوم يستطيع فيه هؤلاء البشر استرداد ما فقدوه.. » ص 96 . وهنا نجد المؤلف وقد أسقط موقفه ورؤاه من الحاضر على المستقبل وتصور صورة العلاقات والأمان والنهايات تشبه ما حدث لمثيلاتها عند نهاية القرن العشرين. وبذلك يجعل تشكيل مجتمع الآلي بتناقضاته موازية لتشكيل مجتمع البشري السابق عليه كما أوضح في المقتبسات السابقة. ونشير هنا إلي النهاية التي اختارها المؤلف بانتصار الإنسان البشري يقول:
«رجل ثامن: نعم فنحن السبب فيما حدث لنا ..
خادم السيد رقم ( 1) : ولكننا بالحب استعدنا مجدنا القديم.
خادم( 13 ): وبالحب صنعنا المعجزات وانتصرنا على الإنسان الآلي.
خادم ( 13 ): وبالحب سنبدأ عصراً جديداً قائماً على العمل والجد والكفاح.
رجل ثالث: ولن نجعل للإنسان الآلي مكانا بيننا.
خادم السيد( 1): بل سيؤدي دوره الطبيعي..
خادم السيد( 13 ): لقد وعينا الدرس وفهمناه جيداً.
خادم السيد( 1): : ظللنا ألف عام صامتين.
خادم السيد( 13 ) : لا يا عزيزي لا وقت للكلام فأمامنا ألف عام أخرى حتى نبني الحضارة .. »
ويتضح من هذا الحوار الأخير ما اختاره الكاتب من حلول واضحة لبناء حضارة الإنسان البشري. أعني الحب والعمل. بديلاً عن الكراهية والكسل. وبذلك يتم عمل صلاح معاطي وتنتهي فانتازياه هذه النهاية السعيدة التي تنتهي بانتصار العقل البشري. ولا ننسى في هذا السياق أن هذه المسرحية وإن كتب عليها المؤلف أنها من فصل واحد ليؤكد دورة التاريخ ودورة الحضارة التي تأتي على البشرية كل دورة حضارية كما قال «تويني » فإننا ندرك أنها مسرحية طويلة تساوي عدة فصول.
وتقسيم النص ستة مشاهد له دلالته الرقمية في خلق العالم، لقد اختلق صلاح معاطي عالماً آلياً مستقبليا فانتازيا في ستة مشاهد متصاعدة وأكد في كل مشهد على الحركة الدرامية الواضحة بالضبط، كما أشار التراث التوراتي أن الله خلق الكون في ستة أيام واستراح على اليوم السابع الذي يمثل عند معاطي بداية ألف سنة جديدة . وكأنه يكرر دلالة العدد ستة في القرآن الكريم عن قصة الخلق في ستة أيام.
ونشير هنا أيضاً إلى أن صلاح معاطي يجعل اليوم ألف سنة ويكرر ذلك بالقطع حتى نهاية الدورة الحضارية التي تنتهب عند نهاية ألفية وتبدأ عند بداية ألفية. وكان من الطبيعي أن تنشأ السخرية على لسان الكاتب ، بسبب التناقضات بين صانع الآلي والبشري ولكن لأنها لغة واحدة فقد أحسسنا طوال النص « بخفة الدم » المصرية اللاذعة التي تشي بها عباراته، كما مر علينا في التعبير السابق « أليس بداخلك قليل من التيار؟ » وهو تعبير يوازي « أليس بداخلك قليل من الحرارة أو الغيرة على الأنثى » ونجده ص 99 يقول على لسان رقم (1) الزوجة «أنت تبالغين كثيراً يا رقم (3) وتهولين كعادتك.. تعملين من الذرة مجرة » ص 99 وهو ما يوازي قولنا « تعمل من الحبة قبة » كذلك قوله ص 101
« دي مابتبلش في بقها فولة » وبهذا حاول أن يستخدم لغة مناسبة لعالمه المتخيل حتى في السخرية وبالقياس على ما استعمله الآن، بالضبط كما سار على نقد الآلي بنقد المستقبل، ونقد المستقبل بنقد الآلي في هذه المسرحية.
ونشير هنا إلى توفيق الكاتب في اختيار لغة الحوار التي يغلب عليها القص، ذلك أن العامية لم تكن لتتناسب مع عالم قادر على النطق بأي لغة. لأن برامج الكمبيوتر المزودة بها الشخصيات تجعلها قادرة على التحدث وعلى الفهم بأي لغة. فكان التفاصح مطلوباً هنا. خاصة أنه استخدام لغة بسيطة واضحة تبعد عن المجاز لتتناسب مع عالم واضح مبرمج لا يحمل عواطف تتأجج فتثير خيالا مجازيا وتناسبت هذه اللغة مع المسرح العربي الآن. إذ حافظت على التعبير بالفصحى كما أعطى سهولتها فرصة للمشاركة العامة عند عرضها على المسرح.
ويظهر هنا أن أجيال المسرح تعطي بعضها البعض من التقنيات التي تتوارث، فالحكيم قدم الرؤية السابقة الرائدة على الرغم من استفادة الحكيم من تيار الخيال العلمي الفرنسي بخاصة. فقدم لنا في النهاية – فانتازيا محكومة بهدف انتصار (الإنسان) لأنه لم يكن لعصره تحكم الآلي كما هو الآن. وبالضبط نجد النهاية عند صلاح معاطي وهو موقف بشري بالضرورة ، ونجد هذه النهايات تتم لصالح حياة أرقى للبشرية. ونجد هذه النهاية لدى كل كتاب الخيال العلمي باستثناء بعض الكتابات التي تعاقب البشر بسبب تمردهم على الحياة الجديدة السهلة. ولكن يظل الحلم أداة الكتابة. وخلق الشخصيات والحوادث وتصور حوارات ودفع حركة الدراما مميزات تكشف عن فروق فردية بين كاتب وآخر. وفي حين نجد أن ما كتبه الحكيم قد تحقق بالفعل في سفن الفضاء نجد صلاح معاطي يعدنا بما يحلم في مستقبل بعيد جدا بعد ألف سنة من الآن ولكن اختلاف مادة الحلم واختلاف نوعية التقدم ميزت الجيلين. فالحكيم ومعاطي يسيطران على لغتهما الفصحى ومصائر الشخصيات ولكن الحكيم سمح بالعواطف الكهرومغناطيسية بين البشر فعلت لغته إلى المجاز في كثير من الأحيان بينما حبس معاطي نفسه في لغته المتفاصحة التي تشابهت على لسان البشر والآليين وإن ظهر التمايز بين حماس لغة البشريين عن لغة الآليين في مسرحية معاطي. كذلك لا ينكر الحكيم ضرورة التقدم ولكنه ركز على المخاطرة فجعل الضحية رجلين سجينين.
خرجا إلى الفضاء في حين ركز صلاح معاطي على حدوث التغيير والخطر بالفعل وركز على شخصيتين هما الخادمان للسيدين رقم ( 1)، ورقم ( 13 ) وجعل بقية الشخصيات آلات .بينما حافظ الحكيم على تغير كيميائي فيزيائي عند البشريين واحتفظ لهما بكل تراث البشر واستحضر لهما كل شيء استحضاراً صوريا كأنه رسم بأشعة الليزر على الهواء.. بل حول الشخصيات جميعاً إلى ملائكة يضحون من أجل البشرية ولكنهم ظلوا يستمتعون ببشريتهم الحسية والكهربائية في الآن نفسه. وهو ما لخصه في نهاية المسرحية « رحلة إلى الغد » في قول السجين الأول:
«ليس عقل الناس، إنه عقل العلماء والمهندسين والخبراء والمتخصصين هو الذي يتحرك حقا ليعطي سواد الناس اختراعات تضاعف لهم الراحة واللهو والكسل والفراغ»  ص 155 .
وهى المعطيات التي انطلق منها صلاح معاطي في بيان زوال دولة البشرية أمام دولة الآلية. فإن كان ما قاله الحكيم يؤدي إلى حلم بالرفاهية فقد سبب هذا الحلم عند معاطي كارثة الإنسان الذي استمرأ الفراغ وترك عالمه للآلة وتركها تتصرف. أليس هذا دليل على حوار مسرحي وفكري بين جيلين من أجيال كتابة مسرح الخيال العلمي.
ألا يتضح لنا أن الجيل الحالي لم يترك تراث أساتذته الذين كونوا ذائقته وأعطوه خبرات في الكتابة والرؤية المستقبلية إنه حوار يمتد بين جيلين يفرق بين نصيهما عشرون عاما من الكتابة والعلم وإنجازات التكنولوجيا، ومع ذلك أفاد القادم من السابق بوضوح. ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك بين الجيلين جيل وسط. فهناك جيل الكاتب الكبير «نهاد شريف » وهو أحد رواد كتابة الخيال العلمي في العالم العربي. وهناك ريادات موازية لمصطفى محمود في الرواية، ولراجي عنايت، ولصبري موسى واليوسف عز الدين عيسى وغيرهم من مختلف الأجيال الذين كتبوا في جميع الأنواع الأدبية والفنية بخيال علمي يصنع أسطورة جديدة للعالم في المستقبل.
ولا ننسى في هذا السياق إنجازات نهاد شريف في مسرحية أحزان السيد مكرر وهي مسرحية كانت مدداً آخر لتلك العوالم المستقبلية المجردة عند صلاح معاطي وإن كان ذلك لا ينفي تمايز معاطي وخصوصيته في الرؤية والكتابة وقدرته على أن يجد لنفسه طريقاً خاصاً في مسرح الخيال العلمي. إن ما يحدث من كتابة مستقبلية في العالم كله لا بد أن يكون خيالاً علمياً بكل مفاهيم العلم النظري والمعملي . لأن القدرة الكامنة في عقول تصنع المستقبل وكذلك لابد أن يتوسل بالحلم والفانتازيا والخرافة ونقل قدرات التخيل واللعب بأشكال الحياة والموت.
بل لابد أن يفيد من تجارب الكتاب السابقين له في النوع الأدبي الذي يمارسه المسرح هنا. ولا بد في النهاية من التسلح بالرؤية الفلسفية والحضارية المستقبلية . وكما يقول «آلفين توفلر » في «حضارة الموجة الثالثة » « ظهر إلى الوجود أجزاء من هذه الحضارة، وبدأ ملايين من الناس مناغمة حياتهم مع إيقاع المستقبل، ويحاول آخرون ترميم العالم المتحضر الذي يمنحهم الحياة في هروب بائس غير ذي جدوى.... إننا نواجه عصراً تكنولوجيا » ص 67 . وهذا ما يفعله صلاح معاطي اليوم مع كتاب الخيال العلمي الآن في عالمنا العربي، كما فعل من قبل توفيق الحكيم ونهاد شريف.

مجلة الأدب العلمي العدد الحادي عشر   عالم الكتاب 

0 comments: