Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

من مآثر علم الفلك السومري ....الأدب العلمي العدد الثالث والرابع


د. جهاد ملحم

كانت آسيا عموماً ، وبلاد ما بين النهرين خصوصاً ، مسرحاً لأقدم مدنية معروفة وكونت البطانة والأساس للثقافتين اليونانية والرومانية .
ول ديورانت مؤلف قصة الحضارة 
المفهوم المطلق عن بداية لكل الأشياء هو الأساس الذي يقوم عليه علم الفلك الحديث والفيزياء الفلكية. ومقولة أنّ هناك فراغاً وشواشاً كانا موجودين قبل أن يوجد النظام تتطابق مع آخر النظريات القائلة بأن الشواش، أو عدم الاستقرار الدائم، هو الذي يحكم الكون. ثم جاءت بعدئذ مقولة حول حزام الضوء الذي بدأ عملية الخلق. هل كانت تلك الحادثة إشارة إلى الانفجار الكبير Big Bang ، النظرية التي تفيد بأن الكون خلق من انفجار بدائي، انفجار طاقي عنيف على شكل ضوئي، قذف في جميع الاتجاهات المادة التي تشكلت منها فيما بعد النجوم والكواكب والصخور والكائنات الحية؟
لكن السؤال اللغز هو كيف عرف الإنسان القديم نظرية الانفجار الكبير منذ هذا الزمن الموغل في القدم؟ ثم كيف وصف الطريقة التي تشكّل فيها كوكبنا الأرضي الصغير والقطاع السماوي المدعو بالقبة الزرقاء، أو حزام الضوء، بما فيه من كواكب ونجوم ؟
أصبح مناسباً البحث عن أجوبة فقط حين أخذت طبيعة الحوادث الجارية تتكشف للعيان. بمقدار ما هي مثيرة الاكتشافات التي تمت باستخدام الميكروسكوبات (المجاهر)، فإنّ التلسكوبات (المقاريب) هي التي مكّنتنا من رؤية ذلك الشيء الذي يملؤنا إدراكاً لمهابة الطبيعة والكون. ومن بين جميع التطورات الحاصلة في ميدان العلوم، فإن أكثرها انطباعية ومدعاة للإعجاب من دون شك هي اكتشافات الفضاء المحيط بكوكبنا الأرضي. وما يذهل العقل أيضاً هي تلك التقانات العالية التي وصلت إلى ما هي عليه الآن من حيث الدقة والابتكار، سواء في بناء المراصد الفلكية أو في تصميم المركبات والأجهزة المرافقة لها! ففي خلال عدة عقود فقط حلّق سكان الأرض خارج مجالها المباشر؛ طافوا في سماءها على ارتفاع مئات الأميال؛ هبطوا على كوكبها الوحيد، القمر؛ كما أرسلوا مجموعة من سفن الفضاء لسبر الفضاء البعيد، مكتشفين عوالم نشيطة وفعالة مبهرة في ألوانها وملامحها و تصاميمها و أقمارها و حلقاتها .
وصل العصر الذهبي لاكتشاف الفضاء الخارجي إلى النقطة الأكثر إثارة في عام 1989 ، حين حطّت سفينة الفضاء غير المأهولة فوياجر - 2 على سطح نبتون البعيد وأخذت ترسل  إلى الأرض الصور والمعطيات. يبلغ وزن المركبة حوالي طن واحد ربطت إليها ببراعة فائقة كاميرات تلفزيونية، آلات قياس  ومجسات، منابع قدرة تغذيها مواد نووية مشعة، هوائيات إرسال، وحواسيب صغيرة الحجم، ترسل ما يشابه نبضات شبيهة بالهمسة تحتاج إلى حوالي أكثر من أربع ساعات للوصول إلى الأرض، علماً أنها تسير بسرعة الضوء. ما إن تصل النبضات إلى الأرض، حتى تأسرها مجموعة من التلسكوبات الراديوية التي تشكل شبكة فضائية معقدة تتبع وكالة الفضاء الأمريكية الناسا ( NASA )؛ بعدئذ تنقل الإشارات الضعيفة بمعالجة الكترونية بارعة إلى صور ضوئية، رسوم بيانية، خرائط، وأشكال أخرى من المعطيات باستخدام أجهزة متطورة في مخبر الدفع النفاث( JPL ) في باسادينا، كاليفورنيا، حيث توجد هناك إدارة مشروع وكالة الفضاء.

المركبة فوياجر -2 زيارة نبتون (Neptune)

مع إطلاقها عام 1977 ، قبل اثنتي عشرة سنة من إنجاز هذه الرحلة النهائية  الزيارة إلى نبتون  كانت المركبتان فوياجر- 2 وزميلتها فوياجر- 1، قد صممتا أصلاً للوصول إلى المشتري وزحل فقط ومسحهما ومن ثم تعزيز المعطيات الأبكر حول هذين العملاقين الغازيين التي حصلنا عليها من المركبتين غير المأهولتين الرائد - 10 والرائد - 11 . لكن ببراعة ملفتة للنظر، فإن علماء وتقنيي المشروع استفادوا من ميزة الاصطفاف النادر للكواكب الخارجية، باستخدام القوى التثاقلية لهذين الكوكبين كوسيلة دفع إضافية، تدبّروا عملية دفع فوياجر - 2 من زحل باتجاه اورانوس وبعدئذ من اورانوس إلى نبتون.
مع ظهور الصور الباهرة للكوكب الزبرجدي (أزرق مُخضرّ) على شاشات التلفزة، أكد المراسلون وكرروا بأنها المرة الأولى التي يستطيع فيها إنسان أن يرى هذا الكوكب فعلياً، والذي لم يكن ممكناً رؤيته حتى مع أفضل الصور التي التقطت له بواسطة تلسكوب حيث أظهرته بقعة مضيئة باهته في فضاء مظلم يبعد ثلاثة بلايين ميل تقريباً عن سطح الأرض. لقد ذكّروا ثانية مشاهدي التلفزيون أن نبتون اكتشف فقط عام 1846 ، وأنّ حصول اضطرابات في مدار كوكب أورانوس الأقرب إليه نسبياً دلت على وجود جسم سماوي آخر وراءه. أعادوا إلى الأذهان أنه منذ الأزمان القديمة وحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يعرف أحد شيئاً عن نبتون، بما فيهم العلماء الكبار من أمثال كوبرنيكس، كيبلر، غاليليو ونيوتن، لكن الحقيقة المدهشة أنّ السومريين وصفوه على النحو السابق.

مخطط عملية دفع فوياجر -2 من زحل إلى أورانوس وبعدئذ من أورانوس إلى نبتون

أظهرت الإشارات الالكترونية من فوياجر-2 نبتون كوكباً جميلاً زبرجدي اللون تطوّقه غازات الهيدروجين، الهليوم، والميتان، وتهب فيه رياحاً دوارة عالية السرعة تبدو معها أعاصير الأرض ضعيفة جداً. وتحت هذه الغلاف الجوي يظهر عملاق غامض «ضبابي » لونه أزرق غامق وبعض الأحيان أصفر مخضر،ّ وهذا يعتمد على الزاوية التي تصدمه بها أشعة الشمس. كما بينت صور فوياجر- 2 بأن له قلب صخري يطفو فوقه خليط طيني رقيق القوام من جليد مائي. تدور طبقة الماء هذه حول قلب صخري مع دوران الكوكب دورة واحدة في اليوم (أي كل ست عشرة ساعة)، خالقة حقلاً مغناطيسياً ضخماً.

القمر التابع التريتون (Triton)

وجد العلماء أن هذا الكوكب الجميل (نبتون) تحيط به حلقات عدة مكوّنة من جلاميد، صخور وغبار، كما يدور حوله على أقل تقدير ثمانية أقمار تابعة، أو أقمار. نبدأ من الأخير، من تريتون، الأضخم، الذي تبين أنه لا يقل مشهدية عن الكوكب الرئيسي. أكدت فوياجر - 2 على الحركة التراجعية لهذا الجسم السماوي الصغير (حجمه على الأغلب يساوي حجم قمرنا الأرضي): يدور في الاتجاه المعاكس لمسار نبتون ومسارات الكواكب المعروفة في جملتنا الشمسية، علماً أنها جميعاً لا تدور في الاتجاه المعاكس لعقارب الساعة بل في الاتجاه الموافق لها. كما أظهرت فوياجر - 2 على أنه قمر أزرق، وهذا يعود إلى وجود الميتان في الغلاف الجوي للتريتون. بيّن سطح التريتون خلال غلافه الجوي الرقيق لوناً رمادياً قرنفلياً مع جبال ذات ملامح وعرة على جانب وناعمة على جانب آخر، بالإضافة إلى نشاط بركاني حديث لكن من نوع فعّال جداً.
وهكذا عززت الاكتشافات الوصف الذي قدمه علماء الفلك السومريون بأن نبتون في الحقيقة هو أزرق مخضر؛ إنه مكوّن في جزئه الأكبر من الماء، وتوجد فيه رقعاً تبدو ألوانها شبيهة بنباتات المستنقعات.
هذا المظهر المختلط الأخير يمكن أن يدل على أكثر من شفرة لونية إذا أخذنا بعين الأعتبار المضامين الكاملة الاكتشافات في التريتون: هناك، البقع الأشد عتمة مع الفجوات الأكثر إضاءة أوحت لعلماء الناسا وجود بحيرات عميقة لرواسب طينية عضوية.
أعطى العالم بوب ديفس تقريراً إلى /مجلة وول ستريت جورنال/ مفاده أن التريتون، الذي يحتوي غلافه الجوي من النتروجين بمقدار ما يحتويه جو الأرض، يمكن أن يكون قد فاض عن براكينه النشيطة جنباً إلى جنب مع الغازات والجليد المائي والمركبات العضوية، وهي مركبات أساسها الكربون وتغطي على ما يبدوأجزاء من التريتون.

الكوكب أورانوس (Uranus)

مع أنه قريب نسيباً إلينا  يبعد أورانوس عنا نحو بليوني ميل فقط  يقع فيما وراء زحل بحيث يستحيل رؤيته بالعين المجردة. وقد اكتشف الكوكب عام 1781 الموسيقي فريدريك ويلهلم هرشل الذي كان يهوى علم الفلك، لكن بعد أن أصبحت صناعة التلسكوبات متقنة جداً. منذ اكتشافه وحتى اليوم، أصبح أورانوس أول كوكب مجهول لدى القدماء يُكتشف في الأزمان الحديثة؛ معلوم على نطاق واسع، أنّ القدماء عرفوا الشمس، القمر، وخمسة كواكب فقط (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل) وبجّلوها واعتقدوا أنها تدور حول الأرض في "زرقة السماء "؛ لا يمكن رؤية أو معرفة أي شيء يقع وراء زحل.
على كل حال ، الظاهرتان البارزتان الجديدتان المكتشفتان حديثاً واللتان تخصان كوكب أورانوس وتميزانه عن كواكب آخر هي لونه وبنيته. بفضل التلسكوبات المشادة على الأرض والسفن الفضائية غير المأهولة أصبحنا متآلفين مع لون عطارد البني الأشهب، مع اللون الضبابي الكبريتي الذي يغلف الزهرة، مع لون المريخ المائل للاحمرار، مع اللون المتدرج من الأصفر إلى البني إلى الأحمر لكلٍ من المشُتري وزحل. ولكن الصور التي بثتها رحلة عام 1986 عن أورانوس على شاشات التلفزيونات، جاءت مثيرة نتيجة لونه الأزرق المخضّر  وهو لون يختلف كلية عن ألوان الكواكب الأخرى. والاكتشاف الثاني غير المتوقع الذي وجب التعامل معه هو البنية التي يتألف منها أورانوس. مناقضاً الافتراضات الأولى من قبل علماء الفلك بأنّه كوكب غازي شبيه بالكوكبين العملاقين المشتري وزحل، بينت فوياجر- 2 أنه مغلف بالماء وليس بالغاز؛ ليس وجود صفيحة من الجليد على سطحه فقط بل وجود بحر من الماء. فقد تبيّن، أن الجو الغازي يغلف الكوكب؛ لكن تتحرك تحته طبقة ضخمة مضطربة ومهتاجة  بعمق 6000 ميل من الماء الساخن جداً تصل درجة حرارته إلى 8000 درجة فهرنهايت. وهذه الطبقة من الماء أصبحت ساخنة جداً لأنها تحيط بقلب صخري منصهر يحتوي على عناصر مشعة تنتج حرارة داخلية هائلة (وربما ساهمت في التسخين عمليات أخرى غير معروفة). مع تكبير صور أورانوس على شاشات التلفزة التي تبثها فوياجر - 2 وهي تقترب من الكوكب، لفت المعالج في مركز الدفع النفّاث الانتباه إلى لونه الأزرق المخضرّ غير الاعتيادي.
إنه بالضبط الوصف الذي قدّمه السومريون عنه من قبل، دون أن يكون لديهم تلسكوبات أو آلات تشبه ما نملكه نحن الآن. كما أشاروا إلى وجود الماء على هذا الكوكب الغازي وأقماره التابعة الواقعة على حواف المنظومة الشمسية، على الرغم من أننا كنا نستبعد مثل هذا التوقع. بكلام آخر، لقد عرف السومريون ليس بوجود الكوكب الثاني عشر منذ عدة ألفيات من السنين فقط، بل وصفوه بالأزرق المخضرّ والمائي.

تطابق المعرفتين القديمة والحديثة

هكذا تطابقت المعرفة القديمة مع المعرفة الحديثة. ما اكتشفه علم الفلك الحديث كان السومريون تحدثوا عنه في نصوصهم عندما صنّفوا نبتون قبل أورانوس، كما هو متوقع لشخص يدخل إلى الجملة الشمسية فيرى بلوتو أولاً ثم نبتون ثانياً ثم أورانوس ثالثاً. أطلقوا على أورانوس اسم كاكاب شانامّا ( KaKKab Shanamma )، وقدروا حجمه بضعف حجم نبتون. وتؤكد المعطيات التي قدمتها فوياجر-2 على صحة هذه الفكرة القديمة، إذ يتشابه الكوكبان في اللون والحجم والجوّ المائي؛ كلاهما محاطان بحلقات ويدور حولهما أقمار تابعة أو أقمار. والتشابه الثاني غير المتوقع يتعلق بالحقل المغناطيسي لكل منهما: للكوكبين ميل مفرط غير اعتيادي بالنسبة لمحور الدوران يصل 58 درجة في حالة أورانوس، و 50 درجة في حالة نبتون. يظهر أن نبتون هو التوءم المغناطيسي لأورانوس. وحسب رأي جون ويلفر في جريدة النيويورك تايمز، فالكوكبين لهما طول اليوم ذاته، إذ يصل في كل منهما إلى ست عشرة ساعة.
من غير المشكوك فيه أنّ السومريين أنشؤوا أول حضارة عرفتها البشرية على الإطلاق. ظهور الحضارة المفاجئ قبل ستة ألاف دون وجود سابق لها في أي مكان من العالم، يبين أنها تتفوق فعلياً على كل الحضارات الأولى عالية المستوى: ما قدمته من اختراعات وابتكارات، من مفاهيم وعقائد، شكلت أساس ليس ثقافة الغرب وحده فقط بل ثقافة وحضارة البشرية كلها. كما أنّ العربات والمركبات التي تجرها الخيول، القوارب النهرية والسفن البحرية، التنور والقرميد، الأبنية شاهقة البنيان، الكتابة والمدارس والنقوش، القوانين والمحاكم والمحلفون، المليكة ومجلس الحكم، المدنية، الموسيقا والرسم والرقص، الطب والكيمياء، الغزل والنسيج، الدين والكهانة والمعابد - جميعها بدأت هناك، في بلاد سومر. وفوق كل ما ذكرناه، هناك بدأت أيضاً معرفة الرياضيات وعلم الفلك والفنون.
سجل السومريون معاملاتهم القانونية والتجارية، قصصهم وتاريخهم، على جداول من الصلصال، ورسموا أدق تفاصيل حياتهم على أختام اسطوانية.


0 comments: