Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

أين توجد الذاكرة ؟ ...الأدب العلمي العدد الرابع عشر


د. هاني الحجاج

أكد جابر بن حيان ثم رينيه ديكارت أن عقل الإنسان وجسمه يتكون كل منهما من مادة مختلفة عن الأخرى ، بل إن ديكارت ، في منتصف القرن السابع عشر ناقش فكرة أن يحتوي الجسم بعدين فقط هما الزمان والمكان ، بينما العقل يضم أبعاداً أخرى غير محدودة ، ليتوصل بذلك إلى أن لكل من الجسم والعقل جوهراً مختلفاً .

لكن النظريات العلمية الحديثة عندما وضعت أفكار ديكارت تحت المجهر لم تؤيدها، بل رأت أن تتعامل مع الجسم والعقل على أنها مظهران للشيء ذاته. فإذا واصلنا المتابعة مع رأي ديكارت فقد نصل إلى أن الجسم يعني الموجودات بطريقة تتفق أو تختلف مع الكيفية التي يتأثر بها العقل. لكن الأبحاث الحديثة تقود إلى نتيجة مفادها أن الوعي ينبعث من خصائص الخلايا العصبية في مصفوفة دماغية، يدللّون على إيمانهم هذا بحالات يصاب فيها المخ، من الخارج أو من الداخل، كحالات النزيف الداخلي والأورام السرطانية المخية، وأوديما المخ، فتؤدي هذه الإصابات إلى تبدّل واضح في مستوى الوعي، من حالة عدم التركيز غلى حالة الغيبوبة العميقة، وحتى الغياب العقلي الكامل، فضلاً أن فكرة أن يكون الدماغ هو مركز الوعي أقرب إلى البداهة، من وجود وعي أو ذاكرة أو تفكير ما يخص أي عضو آخر في الجسم. لكن الوعي مسألة تختلف عن الإدراك الحسي على نحو يمكن مناقشته بشكل فلسفي نوعاً. على سبيل المثال فإن إصابة منطقة الرؤية في قشرة المخ قد تؤدي إلى العمى، الذي يمكن ترجمته إلى فقدان الوعي البصري. ولكن في إحدى التجارب على مريضة بحالة تتميز  بفقدان القدرة على معرفة شكل أو اتجاه أي خط طولي أو عمودي أو رأسي على السطح المستوي، إلا أنه عندما طُلب منها الإمساك ببطاقة وإدخالها في الشق فإنها لم تجد صعوبة في فعل ذلك، فعلى مستوى ما أدركت المريضة اتجاه الشق وإن عجزت على رؤيته، بشكل ما يمكننا القول إنها لا تعرف أنها تعرف ذلك. بلغة العلم يمكننا القول إن أصحاب المعاطف البيضاء يؤمنون أن مكمن الوعي هو قشرة المخ؛ طبعاً هذا ليس تحديداً، لكنها لغتهم مع أصحاب مدرسة أن الوعي يتوزع بين الروح والجسد.

لذلك ابتكروا ذلك المكعّب المعروف باسم مكعّب نيكر، وهو مكعّب ثلاثي الأبعاد في منظره، ولكن المنظور الخارجي لهذا المكعّب يتغيّر كل بضع ثوان، ويُنسب إلى مخترعه العالم السويسري نيكر ألبرت لويس والغرض منه اختبار حالات التوهُّم البصري الذي يُطلق عليها الإدراك ثنائي الاستقرار وأجريت التجربة على أحد القردة الذي عليه تمييز أي من الوجوه مُقدم له. وعلى فريق البحث المتابع تمييز الخلايا العصبية التي ترتبط بإدراك الوعي البصري، وبناء على ذلك يمكن رسم خارطة تتبع لمسار نمطي للفوتونات التي تسقط على العين فتوّدي إلى ابتداء عملية الإبصار. ولكن مهلاً، فأصحاب الرأي الآخر لديهم سؤال وجيه: ماذا عن مسائل الوعي المعقدة، مثل عملية الشعور بالذات فضلاً عن أمور متحذلقة أكثر، مثل الكبرياء والانتماء؟ هنا يقرر رجال المعامل أن موضوع الوعي ذو سمعة سيئة ولا يجرؤ على مناقشته أحد!
حتى لو لم ندخل في تعقيدات دراسة خلايا المخ ووظائفه، فعلى أفضل الفروض سوف نقول إن الذاكرة تمثل كيلوغراماً من اللحم المحشور في الجمجمة ويندلق جزء منه في التجويف السفلي حيث ينبت الحبل الشوكي، وفي هذه الكرة الطرية المحشورة المحصورة بين الأذينين يرقد كل ما تعلمناه وكل اسم عرفناه وكل رقم هاتف حفظناه وكل ناتج عرفناه بداهة في جدول الضرب، وترتيب الحروف الأبجدية، وملامح الوجوه، وذكريات المواقف، وتفاصيل العمر، وأحداث الأفلام، وحبكات القصص، وكلمات الأغاني، وآيات الكتب المقدسة، كل ما أحببناه وكل ما كرهنا وكل ما نحاول نسيانه ولا نعرف! ولأن المخ له طبيعة شديدة التعقيد، كالروح في غموضه وألغازه، لا يمكن التعامل مع الذاكرة نفسها بنفس البساطة التي نتعامل بها مع محتويات القرص الصلب في الحواسيب، نرسل الملفات التي لا تلزمنا إلى سلة المهملات، ثم بضغطة على زر الفأرة نفرّغ السلة لنكسب مساحة جديدة نحشوها بالجديد وبالمزيد. بداية الأبحاث في مجال الذاكرة بصفة عامة جاءت في الأوراق العلمية المنشورة في أواخر الخمسينيات عن حالة مريض الأعصاب الذي رمزوا لاسمه بالحرفين ه . م وقد أجريت له عملية استئصال لجزء من مخه جراحياً، بالتحديد ذلك الجزء الخاص بالزمن، ولم يكن المقصود بالطبع أي تلاعب بتاريخه، بل لغرض طبي بحت وهو العلاج المتاح والأخير ليتخلص من الصرع. نجحت العملية لكن ه . م نسى كل ما مر به، وكل شخص التقى قبل العملية! هكذا بدا الضوء يسقط على نظرية مفادها أن الفصل الأول المختص بالزمن والذي يشمل منطقة الحصين هو أيضاً الجزء المختص بالذاكرة بالقرب من القرن الصدغي للدماغ، والمثير أن هذه الحالة كشفت كذلك أن الذاكرة ليست وحدات متراصة كجدار من قوالب الطوب؛ فعندما طُلب من ه . م رسم مرآة تمكّن المريض من رسمها بعد محاولات استمرت عدة أيام متتالية، وذلك بالرغم من فقد الذاكرة عنده لأي ممارسة سابقة لذلك الطلب وتلك المحاولات. فتذكر )كيف( ليس مثل تذكر (ماذا) بمقاييس المخ. المثال الأبسط هو أنه فاقد الذاكرة بالكامل نتيجة صدمة أو إصابة مثلاً يتكلم بلغته بسهولة، فلسانه )يتذكر( الكلام حتى لو كان مخه لا يعرف ما هو وطنه أو مسقط رأسه أو حتى ديانته! الفضل يعود في ذلك إلى التجارب التي أجريت على الحيوانات وإلى توفر صور الأشعة التشخيصية، وأهمها الأشعة المقطعية وموجات الرنين المغناطيسي لدماغ الإنسان، ما جعل العلماء يحصلون على قاعدة بيانات عملاقة لأنواع مختلفة ومتعددة للذاكرة وتحديد أي جزء من الدماغ يتعلق بكل واحدة منها. وظل السؤال متحجراً ضد الإجابة: كيف تتفاعل الأجزاء المتعددة خلال عملية تشفير الذكريات؟ كيف ترتب أجزاء الذاكرة أولوياتها في ذلك الصندوق الأسود، الفص الأوسط للذاكرة التعرفية كي نتمكن من استرجاع الذكريات؟ وماذا عن التجارب التي قطعت بتأثير قشرة الدماغ على عمليات التخزين طويلة الأجل؟ منذ ما يزيد على قرن كامل اعتقد عالم الأعصاب الاسباني الكبير سنتياغو راموس كاجال أن الذكريات تحتاج إلى الخلايا العصبية لدعم العلاقات التي تربطهما ببعضها البعض، ولم يكن وقتها يعرف أنه يمكن لمخ الإنسان تكوين خلايا جديدة، فكان كل تركيزه على كيفية حدوث التغيرات المهمة على الخلايا الموجودة بالفعل.

وفي أوائل السبعينيات ظهرت قاعدة أن الذاكرة قصيرة المدى تشمل تعديلات كيميائية تعمل على تعزيز الصلات القائمة بين الخلايا العصبية، بينما الذاكرة طويلة المدى تحتاج إلى مركبات بروتينية، أو ربما تحتاج إلى تكوينات صلات جديدة. على مستوى أكبر لأبحاث كامل المخ، نجد أن الجسر المحتمل هو العملية التي عرفت باسم (المقوي طويل الأمد) وهو عبارة عن ارتباط عصبي مقو في الحصين بمجمع مواقعه باعتباره الحاضن الافتراضي للخلايا العصبية من الميلاد للممات. أما الإنجاز الأخطر فهو إثبات أن المستوى أن المقوى طويل الأمد يحتضن بالفعل تشكيل الذاكرة الحية للإنسان ويعمل على تهيئة المعارف واستدعاء الذكريات.

مجلة الأدب العلمي العدد الرابع عشر  محطات                     

0 comments: