Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

غاليليو المتهم البريء ...الأدب العلمي العدد الرابع عشر


م.هناء صالح

يا ليتني أحرقت كل ما كتبت بيدي حتى لا أشهد يوم محاكمتي هذه ..
هذه هي الكلمات التي قالها "غاليليو غاليلي" أحد أهم الفيزيائيين على مر العصور ، بعد أن حوكم إثر فتوى الكنيسة بهرطقته ، لأنه أثبت مركزية الشمس من خلال تلسكوبه المطور ، وأجبرته محاكم التفتيش على التراجع عن أقواله العلمية ثم حكموا عليه بالحبس المنزلي إلى أن فقد بصره ومات .

 تعد اكتشافات غاليليو واحدة من عجائب العالم في هذا الزمن ومنذ ذلك الوقت أصبحت اختراعاته في غاية الأهمية في دراسة علم الكون والفضاء.
غاليلو عالم وفيلسوف و فيزيائي و رياضي خرج بالعلم من دائرة الفكر المجرد ليصله بالعالم الواقعي، وبرع أيضا في الموسيقى .
ولد في بيزا في إيطاليا في عام 1564 م وأسهم أبوه في تعليمه اليونانية والرياضيات والموسيقى. و منذ طفولته كان شغوفاً بالعلم و المعرفة ولاسيما مراقبة السماء بما فيها من نجوم و كواكب و أجرام فكان أبوه يسميه مراقب النجوم الصغير شارد العقل .
دخل أحد الاديرة ليتلقى تعليمه الاولي وشجعه أبوه ليصبح تاجر قماش لكن ميله للعلوم و الرياضيات كان هاجسه و مؤرقه .
دخل مدرسة الطب وسرعان ما فصل منها فقد رفض اساتذته اعطاؤه شهادة الطب واعتبروه فاشلاً و اتهموه بالشعوذة و التلاعب بالأرقام ووصفوه بعدم الفائدة . ومع ذلك
فقد استطاع في عام 1589 أن يحصل على كرسي أستاذ في الجامعة. وبعد سنوات قليلة انضم إلى هيئة التدريس في جامعة بادوا وظل هناك حتى عام 1610 .
أنجز اكتشافه العلمي الأول برصده لتأرجح إحدى الثريات المعلقة في سقف كنيسة مدينة بيزا، وتوصل إلى نتيجة أن تأرجحات البندول بصرف النظر عن اتساعها تستغرق نفس الوقت. وبإطالة ذراع البندول أو تقصيره أمكنه أن ينقص أو يزيد من معدل ذبذبته. وبذلك اكتشف غاليلو مبدأ وضع أول ميقاتية آلية
حيث يمكن استغلال حركة النواس لقياس الزمن وهي وسيلة ضرورية لقياس الحركة .

شن غاليليو الحرب على فيزياء أرسطو فأثبت بالتجارب بعض عيوب نظرياته المتعلقة بعلم الحركة، مثل الاعتقاد بأن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة.
في البداية لاحظ غاليلو أن الأجسام لا تسقط بنفس السرعة بل تتفاوت سرعة سقوطها
باختلاف أوزانها. فالجسم الثقيل يسقط قبل الجسم الخفيف إذا أطلقناهما من ارتفاع واحد. إن هذه الملاحظة تحمل على الاعتقاد أن اختلاف سرعة الأجسام الساقطة سببه اختلاف أوزانها. ولكن عندما دقق في الأمر ونوع في التجارب اتضح له أن هناك عنصراً آخر أهمل ولم يدخل في الحساب، ألا وهو
مقاومة الوسط الذي يحدث فيه السقوط (أي مقاومة الهواء بالنسبة للأجسام الساقطة على سطح الأرض )وفي المكان المفرغ من الهواء تكاد تكون سرعة الأجسام الساقطة والمختلفة في الوزن واحدة .

وقد مثلت نظريته الجديدة في الفيزياء خروجاً جذرياً عن أراء أرسطو من ناحيتين فهي تفرض:

أولاً: أن السكون ليس حالة مميزة للأجسام بل الحركة طبيعية شانها شأن السكون مثلاً.

وثانياً: فقد أثبت أن الحركة الطبيعية ليست هي الحركة الدائرية وإنما هي الحركة في خط مستقيم. فإذا لم يحدث تدخل من أي نوع في طريق جسم ما فإنه يظل بسرعة متجانسة في خط مستقيم - قانون العطالة - وأوضح أن سرعة سقوط الأجسام تزيد بنسبة منتظمة. وأثبت أن أية قذيفة تطلق
في اتجاه أفقي تسقط إلى الأرض على شكل منحني قطع مكافئ يقابل قوة الدفع وقوة الجاذبية محللاً القوة إلى مركبتين(مركبة أفقية ومركبة شاقولية ) .
جمع غاليلو أبحاثه وتجاربه في كتابه
(محاورات بين علمين جديدين الأستاتيكا والديناميكا )والتي أصبحت بعد جهود وإضافات نيوتن قوانين علم الحركة الثلاثة.
إن أهم ما دشنه غاليلو الطريقة الجديدة في البحث العلمي والتي ندعوها اليوم بالمنهاج التجريبي .
لقد أدرك غاليلو أهمية تطبيق الرياضيات في البحث عن ظواهر الطبيعة، لذا نجده يجعل منها العمود الفقري لكل بحث علمي ويتجلى ذلك من خلال أبحاثه وتجاربه التي حرص على التعبير عنها رياضيًا. وقد صرح في عبارة مشهورة له بأن الرياضيات هي المفتاح الذي يحل ألغازاً الطبيعة .
وكما اهتم غاليلو بالكشف عن العلاقات التي تربط بين ظواهر الأشياء الذي كان مهملاً من قبل. وترك جانباً البحث عن المبادئ

والأسباب الميتافيزيقية التي استحوذت على الفكر القديم. فأفلاطون يرى مثلاً أن سقوط
الأجسام على الأرض مرجعه قوة خفية كامنة في الأجسام نفسها تدفع الجسم إلى نوع من التعاطف مع جسم أخر تماماً كما يميل الناس إلى بعضهم البعض.
ونفس الشيء قال به أرسطو. بينما نجد أن غاليلو يركز اهتمامه على الظاهرة كما هي في الطبيعة دارسًا العلاقات المختلفة القائمة بين أجزائها وبين ظواهر أخرى معتمداً على التجربة والاختيار. وأخيراً توصل غاليلو إلى صياغة قانون سقوط الأجسام كما يلي :

- تسقط الأجسام في الفراغ بنفس السرعة مهما كان وزنها وطبيعتها .

- المسافة التي يقطعها الجسم الساقط متناسبة مع مربع الزمن الذي يستغرقه في السقوط .

ومن إسهامات غاليلو في الفيزياء اختراعه مقياس ترمومتر للحرارة، وميزاناً هيدروستاتياً لتقدير الأوزان النسبية للمعادن في السبيكة .
كان غاليلو يخصص جزءاً كبيراً من وقته لعلم الفلك. قام بتطوير تلسكوب عام 1609 م مستفيداً من إنجاز صانع النظارات الهولندي هانز لبرهي عام 1608 م بوضع عدسة مزدوجة
محدبة على الطرف البعيد لأنبوبة معدنية وعدسة مزدوجة مقعرة على الطرف القريب وكان أول من استخدم المقراب لدراسة السماء وبذا غيّر حال علم الفلك من علم يعتمد على العين المجردة الى علم رصدي دقيق، محققًا بذلك نتائج باهرة.
وفي عام 1609 وجه غاليلو تلسكوبه إلى السماء راصداً سطح القمر فرآه مليئًا بالحفر والتضاريس وليس أملسًا كما كان يظن، الشيء الذي يبطل فكرة كمال الأجسام السماوية التي كان يعتقدها أرسطو. وقد قدم غاليليو مجموعة من الرسومات لسطح القمر كما شاهده عبر التلسكوب .
وفي عام 1610 اكتشف غاليلو أقمار المشتري الأربعة ( أيو، يوروبا، غانيميد، وكاليستو)  وكتب يقول :
وهذه الأجسام الجديدة تدور حول نجم آخر كبير جداً، مثلما يدور عطارد والزهرة حول الشمس وربما غيرها من الكواكب الأخرى المعروفة .
كما قام غاليلو بمراقبة كوكب زحل واكتشف أن شكله لا يبدو قرصاً تام الاستدارة بل تغشاه كتل دائرية غير متميزة عند أطرافه.
والواقع أن منظاره كان أصغر من أن يكون قادرًا على إظهار تلك الكتل على أنها حلقات كوكب زحل .
كان نقاد كوبرنيكوس قد قالوا بأنه كانت الزهرة تدور حول الشمس فلا بد لها من أوجه مثل القمر أي تغيرات في أشكالها الظاهرية، وقالوا بأنه لا توجد أية علامات على هذه التغيرات. ولكنه في شهر أيلول كشف منظار غاليلو عن مثل هذه الأوجه. وفي رسالة وجهها غاليلو إلى كبلر كتب يقول :
أساتذة جامعة بادوا أبوا أن يؤمنوا بصحة كشوفه. بل أبوا ان يشاهدوا السماوات من خلال تلسكوبه .
فسر غاليلو العدد الكبير من النقاط المضيئة والمنفصلة التي رصدها في مجرة درب التبانة بأنها نجوم بعيدة جداً وليس مجرد سحابة من الضوء كما ظنها السابقون. كما أشار إلى وجود البقع الشمسية التي تبدل مواقعها يوماً بعد يوم وبملاحظة تغير مواقعها يوماً بعد يوم استدل غاليلو على أن الشمس تدور حول نفسها .
كل هذه الكشوف قلبت التصورات الراسخة منذ القدم رأساً على عقب ودفعت المدرسين المتمسكين بحرفية الكتاب المقدس إلى إدانة المنظار المقرب الذي عكر صفو سباتهم الغارق في الأوهام. لقد كان من المحتم أن يقع صدام بين غاليلو ورجال الدين المحافظين. إلا أن غاليلو وجد حليفاً قوياً وصديقاً في
شخص الكاردنيال مافيو الذي سيصبح فيما بعد البابا أوربان الثامن .
في عام 1616 م شجبت محكمة التفتيش نظرية حركة الأرض وحجتهم في ذلك أنها إذا قبلت نظرية كوبرنيكوس فإن التفسير الحرفي لبعض فقرات الكتاب المقدس يصبح مستحيلاً ، وهذا ما أجاب عليه غاليلو بصورة مغايرة، وهي أن غاية الكتاب المقدس ليس دراسة العالم الفيزيائي وقال بابتسام :
إن قصد الروح المقدس هو أن يعلمنا كيف يجب الذهاب إلى السماء وليس كيف حال السماء.
وضعت محكمة التفتيش كتاب كوبرنيكوس دوران الأجرام السماوية في فهرس الكتب المحرمة، وكان ذلك تحذيراً رسمياً لغاليلو بوجوب الامتناع عن تعليم نظريات كوبرنيكوس أو الدفاع عنها أو حتى الكلام عنها. وقد قبل غاليلو ذلك ووجه بحوثه باتجاهات أخرى ولكن الحاجة لقول الحقيقة شيء عظيم بالنسبة لرجل العلم هذا.
لذا في سنة 1624 نشر كتابه حوار في منظومتي العالم الأساسيتين والمقصود بهما منظومة بطليموس التي تمدحها الكنيسة والأخرى منظومة كوبرنيكوس. وكانت المفاجأة الكبرى أن البابا أوربان الثامن أعطى موافقته ولكن بشرط أن يقدم غاليلو المنظومتين كفرضيتين بسيطتين ويعرضهما بشكل يبين
فيه الواحدة كالأخرى، وبخاصة ألا يدل على أنه يفضل أياً منهما. وهذا كان امتيازا كبيراً منحه البابا لغاليلو وذلك لصداقته معه من دون شك. والمهم أن المنظومة المحرمة من الكنيسة قدمت كفرضية بسيطة. ولأول مرة منذ عام 1616 م سمحت بنشر الأفكار الجديدة .
انتشر الكتاب بشكل واسع ورحب به كحدث رئيس، ولكن الكنيسة انقلبت ضد الكتاب وكان لهذا الانقلاب دواعي كثيرة منها نشر الكتاب باللغة الإيطالية، وهذا ما جعله يصل إلى جمهور عريض جدًا وهذا أمر يكدرها.
ومما يكدر أكثر هو النبرة اللاذعة التهكمية بهذه الحوارات، فغاليلو لم يكن عالماً فحسب بل كان مجادلاً محاوراً كبيراً جداً والأسوأ من ذلك أنه تحيز لآراء كوبرنيكوس الذي وجد قبله أن الأرض تدور حول الشمس مما أثار غضب البابا أوربان الثامن غضباً كبيراً مما اضطر لمحاسبة غاليلو على أرائه محاسبة  قاسية .
مثل غاليلو صاغرا للأمر وماكان منه إلا أن أوقف دوران الأرض حول الشمس بقسوة الحكام وظلمهم، لكن في الوقت نفسه تابع أبحاثه الى أن جاءته الدعوى للمثول أمام محكمة التفتيش، فكان طريح الفراش هزيل الجسم ناحل العود، فأفاد أطباؤه بان حالته لا تسمح بنقله إلى روما مقر المحكمة بل إلى العالم الآخر، ومع ذلك صدر الأمر بتقييده بالسلاسل ونقله الى روما للمحاكمة .
استمرت محاكمته الجائرة التعسفية ستة أشهر تعرض أثناءها للعذاب والألم و الجوع و الحرمان ولم يستطع الدفاع عن نفسه أمام جبروت الحكام الذين أرغموه أن يقسم قسمه المشهور :
أقسم أمام الكتب المقدسة التي ألمسها بيدي أنني أنبذ أقاويلي السابقة و أقر بأن خطأي كان ناتجاً عن الطموح والغرور و الجهل المطبق و أعلن بأن الأرض لا تدور حول الشمس . وبينما كان أصدقاؤه يقودونه خارج المحكمة تمتم وهو يردد ويلفظ ولكن الأرض مع ذلك تدور ...تدور .
وصدر الحكم بتحريم كتبه وسجنه وفي غياهب السجن و العذاب ألف أعظم كتبه المسمى قوانين الحركة سراً وعند انتهائه من الطباعة لم يره لأن بصره قد كف فراح يغمر الكتاب بيديه ويضمه إلى صدره ويعاينه بعواطفه و قلبه وهو على سرير الموت يقول : إن تقديري لكتابي هذا يفوق تقديري لكل كتبي الأخرى، فهو ثمرة عذابي وآلامي، إن هذا الكون الذي كبّرته بمنظاري و آلاتي العجيبة انكمش بالنسبة لدي من الآن فصاعداً إلى مجرد الحيز الصغير ليحتضن جثماني .
وتوفي العالم الكبير عام 1642 م عن عمر ناهز الثامنة والسبعين عاماً . وفي عام 1835 م حذفت الكنيسة مؤلفاته من قائمة الكتب المحظورة بعد ان اعترفت بفلسفته وفكره . وانتصر الرجل المحطم المقهور على أقوى النظم في التاريخ. وقد
صفحت عنه الكنيسة سنة 1992 م واعترفت بأخطائها في إدانته وذلك بعد 360 عاماً من حكمها عليه وفي عام 2008 م قام الفاتيكان بوضع تمثال له داخل جدرانه تصحيحاً لأخطائه تجاه هذا العالم العظيم . والذي وصف بأنه أعظم عقل في كل العصور.

المراجع :

- استكشاف و مقدمة في علم الفلك - توماس . ت . أرني.
- سلسلة عالم المعرفة.
- ظاهرة العلم الحديث - د. عبد الله العمر.
- قصة الحضارة - وول ديورانت.
- المائة الأوائل - د. مايكل هارت.
- المحاكمات الكبرى في التاريخ - د. نور الدين حاطوم.
- المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي - د. محمد عابد الجابري.

0 comments: